“أيقونة دراما القضية”، هكذا وصف مسلسل التغريبة الفلسطينية، الذي اعتبره النقاد أفضل معالجة درامية للقضية الفلسطينية على الإطلاق، بنص قوي من المؤلف السوري “وليد سيف” ورؤية إبداعية من المخرج “حاتم علي”، شق هذا العمل الدرامي طريقه إلى النور بعد 4 سنوات من كتابته، ليصبح واحداً من أهم الأعمال الدرامية التي تناولت معاناة الفلسطينيين على مر الزمان.
فلنستعد ذكريات الزمن الجميل، ونعد إلى رمضان 2004، عندما لم يكن للتطبيع مكان في الدراما الرمضانية، ولنتذكر معاً “التغريبة الفلسطينية”:
مسلسل التغريبة الفلسطينية
يروي المسلسل قصة أسرة فلسطينية فقيرة تكافح من أجل البقاء في ظل الاحتلال البريطاني ثم خلال الثورة الفلسطينية، وفي خيم اللجوء بعد النكبة، حيث تلخص الأحداث التي مرت بها هذه الأسرة حقبة تاريخية هامة في حياة الفلسطينيين امتدت ما بين ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي.
تكمن أهمية العمل وعبقريته، أنه لم يلخص فقط تاريخ تلك المرحلة، بل استعرض كذلك الحياة الاجتماعية الفلسطينية بأطيافها وطبقاتها المختلفة، إذ تميز بتنوع شخصياته، فضم الفلاح والعامل والشاعر والمثقف والثائر والإقطاعي وحتى الخائن لوطنه.
الأداء المخضرم لممثلي العمل، والذي استطاع أن يمس شغاف قلوب المتابعين، ساهم إلى حد كبير في إنجاحه، إذ شارك في “التغريبة الفلسطينية” نخبة من الممثلين السوريين مثل خالد تاجا وجمال سليمان وتيم حسن ويارا صبري ونسرين طافش وباسل خياط ونادين سلامة، مع مشاركة مميزة للفنانة الأردنية جوليت عواد التي قدمت دور “أم أحمد”.
فقد نقل كل منهم معاناة الفلسطيني المهجر بأسلوب ينسيك أن ما تشاهده مجرد تمثيل على شاشات التلفاز، لا سيما خالد تاجا بشخصية “أبو أحمد”، وجمال سليمان الذي لعب دور الشخصية المحورية في العمل “أبو صالح”
أبو صالح الأب الروحي للنضال الفلسطيني
هو بالباب واقف.. والردى منه خائف
فاهدئي يا عواصف.. خجلاً من جراءته
وصف الشاعر إبراهيم طوقان الثائر الفلسطيني بهذه الكلمات، وجسدها الممثل السوري جمال سليمان بحنكة وبراعة في شخصية “أبو صالح” الذي يبدأ المسلسل بلحظة وفاته ويستطيع أن يصبح على مدار 31 حلقة أيقونة للنضال الفلسطيني.
فقد دفع أبوصالح على الدوام ثمن تحيزه للحق ومواقفه الثابتة، منذ أن تعرض في الحلقات الأولى للجلد على يد الإقطاعي “أبو عزمي” الذي حاول سرقة أرض مشاع فوقف أبو صالح في وجهه، ومروراً بنضال أبو صالح ضد الإنجليز، ثم ضد الصهاينة عندما أصبح أحد قادة الثورة.
وبالرغم من أن المسلسل يبدأ بموت هذه الأيقونة، إلا أنه ينتهي نهاية مفتوحة تحمل رسالة مفادها أن النضال الفلسطيني سيستمر حتى بعد موت شخصية رمزية مثل أبو صالح، ويظهر ذلك عندما يقرر “رشدي” استعادة بندقية والده الشهيد والانطلاق من جديد.
فشل أعقبه نجاح
ما قد لا يعرفه الكثيرون أن كتابة مسلسل التغريبة الفلسطينية استغرقت 3 سنوات، وقد حمل في البداية اسم “الدرب الطويل” وتم إنتاجه في العام 2000.
لكن “الدرب الطويل” فشل فشلاً ذريعاً بسبب ضعف الإمكانيات المادية مما سبب إحباطاً لكاتب العمل وليد سيف، إلا أن الأمل عاد إليه بعد لقائه بالمخرج السوري حاتم علي.
فقد استطاع الثنائي أن يصنعا مجداً درامياً مبهراً ليس فقط في مسلسل “التغريبة الفلسطينية” بل بسلسلة من الأعمال الأخرى كذلك كان أشهرها “ربيع قرطبة” و”ملوك الطوائف”.
وبعد إعادة إنتاج المسلسل باسم “التغريبة الفلسطينية” في العام 2004 حقق العمل نجاحاً فاق كل التوقعات، وعوض الكاتب عن الإحباطات التي شعر بها مسبقاً.
التغريبة الفلسطينية ذاكرة التاريخ
تحدث وليد سيف عن أهمية هذا العمل الدرامي في أحد لقاءاته، واصفاً إياه بـ”ذاكرة التاريخ”، مستشهداً بقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي لا يخشى على المستقبل، بل يخشى على الماضي، فقد يأتي يوم تصبح فيه الخطب والشعارات السياسية هي الذاكرة الوحيدة للشعوب الفلسطينية.
لكن عملاً درامياً فذاً مثل “التغريبة الفلسطينية” سيسهم في تشكيل ذاكرة للتاريخ تنصف قضية محقة مثل القضية الفلسطينية، عندما يتم عرضها من خلال معاناة أناس من لحم ودم عاشوا تجارب التهجير واللجوء والحرمان من الوطن.
إبراهيم طوقان حاضر في التغريبة
لن تذرف دموعك فقط وأنت تشاهد موت “جميلة” الصبية الفلسطينية التي قتلها أبناء عمومتها دفاعاً عن “شرفهم” كما يحلو لهم أن يسموه، أو وأنت تشاهد الأم التي تخرج من بيتها فزعة تحت الرصاص فتنسى طفلها في المنزل وتقضي بقية عمرها تبكيه، أو في مشهد وفاة أم أحمد التي تلحق بعد معاناة بزوجها وحبيبها أبو أحمد الذي لم يستطع أن يصمد على قيد الحياة بعد مغادرة أرضه ووطنه.
في عمل كهذا حرص منتجوه على العناية بأدق التفاصيل، ستبدأ بذرف الدموع عندما تسمع “لا تسل عن سلامته.. روحه فوق راحته.. بدلته همومه.. كفناً من وسادته”.. فحتى كلمات شارة البداية كفيلة بتجييش العواطف، كيف لا وكلماتها للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان وألحانها للموسيقار طاهر مامللي.