في التباسات قراءة القرآن الكريم: ومضاتٌ نقدية
محمد التهامي الحراق
الومضة الأولى: التباسُ اللانسقية والقراءةُ المفتوحة
ربما كان من بين خصوصية الفعل العقلي القرآني، أو لنقل بنوع من التجوز “البنية القرآنية” التي يمكن تعقُّلها، أنها بنية قائمة على ما سماهُ الشيخ الأكبر في توصيفِ كتاباته بـ”التبديد”؛ ويسميه البعض اليوم بـ”اللانسقية”. فمع النص القرآني نحن لسنا إزاء “نص” نسقي مغلَق، له بداية ووسط ونهاية؛ أو استهلال وعقدة وحل؛ أو أطروحة ونقيضها ثم تركيب، أو مقدمات وتحليل واستخلاصات؛ نحن لسنا إزاء مقدمات منطقية وبناء استدلالي متماسك يفضي إلى نتائج محددة. هذا العقل المُنَظَّم و”المنطقي”، قد يُعيد بناء المادة القرآنية وفق “بنيته المنطقية”؛ لكن لا يستنفد الآفاق والمسارات والمسالك والقراءات الممكنة للنص القرآني، بحُكم ما يطبع النص من “قفز” و”تنوع” و”تناثر”[1]، أو قل بحكم “بنيته اللانسقية”. ولذا، حين يقرأ كثير من الغربيين اليوم القرآن الكريم مترجَما، يجدون عنتا في التواصل معه[2]؛ لأنه يقع خارج مألوفِ تقاليد الفهم في تعقلاتهم وقراءاتهم، ومن ثم يكونون دوما في حاجة إلى ترجمات تفسيرية تعيد “بناء” المعاني بشكل يحقق “استيعاب” القرآن الكريم في معقولية القراءة وتقاليدها النسقية.
إن هذا الميسم اللانسقي يترجم طبيعة “العقلانية القرآنية”، بما هي فعل عقلي دينامي يشتغل بآليات “التذكر” و”التدبر” و”التفكر” و”الإبصار” … من أجل تغذية القلب بالمعنى وتخصيبه بالإيمان. إنها عقلانية تنكتب في أسلوب من علاماته “التشذير” و”القفز” في المواضيع، و”التنويع” في الأساليب، والمزج بين الأمكنة والأزمنة، والجمع بين آفاق وسياقات ضمن مجاورات تحتفظ بسرية علائقها الدلالية التي تشكِّل موضوع استكشاف لا نهائي. إن هذه العقلانية القرآنيةَ أشبه ما تكون بـ “عقلانية” الوحي المنظورةِ آياتُه في الكون؛ فثمة دوما تناغُم وتناسق وانسجام بين مختلِف مكونات هذا الكون، لكنها تحتفظ بلغزها الذي على العلم أن لا يكفَّ عن السعي لحلّه واكتشاف ما ينتظمها من نواميس وسنن، ويشج بينها من علائق. ذاك أيضا ما يحتاجهُ الوحي المسطورةُ آياتُه في المصحف الكريم؛ فالعقلانية القرآنية ثابتة في الانسجام الداخلي للنص، والذي على القارئ دوما أن يكتشفه؛ إذ ثمة وعدٌ إلهي أن هذا الوحي المسطور لا تنافر ولا انفكاك ولا تفكك في “بنيته العميقة”، أو قل باللغة القرآنية لا “اختلاف” ينخرُ هذه البنية الكائنة معالمُها اللانهائية في كل قراءة تدبرية سليمة؛ قال تعالى: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا” (النساء، الآية 82). وكل انسجانٍ بـظاهرِ “لانسقية” النصّ، هو إخلاف لميثاقِ قراءته، الذي ينهى عن تجزيئه وتعضيته، قال تعالى: “وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ المُبِـينُ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِـينَ الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ” (الحجر، الآية 91).
على أن من خصائص هذه العقلانية القرآنية الواشجة بين القلب والعقل، بين الاطمئنان والتساؤل، أن البنية التبديدية للنص القرآني وخصيصته اللانسقية، بقدر ما يتم ترميمها وتجبير شقوقها عبر التلاوة الشعائرية، والتلقي الإيماني الروحاني، بحيث تشكل هذه الخصيصة أداةً لطيفة للسفر إلى عوالم الغيب، والمعاني المتعالية والآفاق الخشوعية التي تذاق ولا تنقال، إذا استعلمنا لغة الصوفية؛ أقول بقدر ما يتم ذاك الترميم والتجبير والتلقي بقدر ما تجعل هذه الخصيصةُ ذاتُها من “عقلانية” النص القرآني أفقا كونيا منفتحا على إعادة القراءة وإعادة البنينة وإعادة التشكيل “النسقي” وفق المعقوليات المتجددة للقراء المتجددين عبر تعاقب الأحقاب وتوالي الأزمنة وتغير العصور المعرفية. وهو ما يعني أن خصيصة “اللانسقية” واحدةٌ من معالم انفتاح النص القرآني على تعدد إمكانات البنينة والصياغة النسقية، بحيث تتحقق هذه البنينة وهذه الصياغة بما يلائم المعقوليات المتجددة والصائرة والمتحولة حسب الأزمنة المعرفية المتغايرة. وهذه واحدة من علامات خلود النص القرآني وتعاليه؛ إذ النصُّ النسقي المغلَق مهدَّدٌ بالتاريخية، فيما النص اللانسقي المفتوح يملك قدرة على محاورة المخاطَبين المختلفين تاريخيا، ومن ثم تصبح هذه الخصيصة علامة من علامات تعالي النص على مستوى الأسلوب، وضمانة من ضمانات مخاطَبةِ النصِّ للناسِ كافة في مختلِف الأزمنة والأمكنة، وبتغاير إبستميات القراءة ومنطلقات استنطاقها. بهذه المثابة، لا يفتر الوحي عن التنزل على عقول وقلوب المخاطَبين، ولا يكف الله سبحانه عن مخاطبة الإنسان بالوحي الدائم؛ لدرجة يمكن معها القول: إذا كان للنص القرآني من معالم “إعجازية” خالدة، فهذه واحدة من أبرزها؛ أن يكون متعاليا ومطلقا في التاريخ المتغير والنسبي؛ وذلك عن طريق الانفتاح الدائم على إعادة الصياغة النسقية المتجددة، ومن ثم إعادة القراءة، حسب أسئلة وانشغالات وأدوات ومحددات كل عصر من العصور المعرفية المتناسخة.
في هذا السياق، أستحضرُ، على سبيل التمثيل، نموذج “القراءة” التي قدمها عبد النور بيدار في كتابه “من أجل إسلام يليق بزماننا“[3]؛ حيث ذهب إلى أن تلك اللانسقية في النص القرآني هي المعادل الموضوعي اليوم للكاووس الذي يخترق المجتمعات الغربية الما بعد حداثية، حيث تشكل تلك الخصيصة أمراً ملهِما للمعنى في سياق تبديد المعنى المميِّز لزمن ما بعد الحداثة. ولعل هذه الخصيصة هي التي تجعل اليوم القراءة العرفانية الأكبرية المنفتحة والمنشرحة للنص القرآني[4]، والمبثوثة في كتابة تبديدية منسجمة مع لا نسقيةِ الوحي المجموع في مدونة مكتوبة؛ تجعل تلك القراءة متوافقة مع الأفق الما بعد الحداثي الذي يحتفي بالكتابة الشذرية التي تشذِّر الزمان، وتجعله لا خطيا بل زمانا دائريا، وتنفر من الخطية والاتجاهية الأحادية إلى نوع من “العود الأبدي” بالمعنى الفلسفي المعاصر. ها هنا تأتي قراءةُ “دائريةِ” فكر ابن العربي وكتابته الارتحالية وطبيعتها التدفقية التناقضية في ضوء النص النيتشوي[5]؛ بل والذهاب إلى إيجاد تقاطعات بين ابن العربي و جاك دريدا[6]، وكذا تنظيم ندوة دولية في الرباط خلال بداية الألفية الثالثة بعنوان مثير: “ابن عربي في أفق ما بعد الحداثة“[7] ، وإصدار محمد المصباحي كتابا بهذا النزوع تحت عنوان: ” نعم ولا، ابن عربي، والفكر المنفتح ؟”[8].
كما نسجّل هذا النزوعَ أيضا في كتاب مثير ومنزاح عن مألوف الكلام في فلسفة الدين في العالم العربي، أعني كتاب “الإيمان والحر أو ما بعد الملة” لفتحي المسكيني[9]، وهو يذهب إلى أن الإيمان الملِّي النسقي المُغلَق قد استنفد دوره، وأنه أصبح يتعلق بإلهٍ لم يَعُد حيا في قلوب وحيوات المؤمنين إلا على سبيل التذكر والعادة؛ وأن أفقا لإعادة ترتيب العلاقة الإيمانية بأنفسِنا يتشكل خارج الملة؛ أفقا بقدر ما يُحْرِج الإيمان الملِّي يحرج، حسب المؤلف، كذلك الإلحادَ الذي يزكِّي الانغلاق النسقي الملِّي حين ينتصرُ لانغلاق آخر لرفضه. المثير في الكتاب أنه يستحضر نصوصَ العرفاء في جلِّ تصديراتِ فصولهِ، مما يدلُّ على فعالية الخاصية التبديدية للنصِّ العرفاني اللانسقي في فتح فهم القرآن الكريم، ومن خلال تلك الخصيصة البنائية فيه، على أفق إيماني حر، يرفض الأنساق المغلَقة التي أقفلت قراءة النص، ونقلته من “التبديد” إلى “التحديد”. إن ذاك الاستدعاء لنصوص العرفانين، هو استدعاء لخاصية انفتاح النص القرآني وحرية تشكيل آفاق إيمانية حرة، أي خارج الانغلاقات النسقية للقراءة الموروثة للنص القرآني.
ربما كان علينا إعادةُ قراءة “التلقي العرفاني” للنص القرآني، سواء بالفهم الإشاري، أو التمثل السلوكي الأحوالي، أو التلقي الجمالي العرفاني من خلال الشعر والحكاية والفنون؛ مع فهم كل ذلك ضمن مسارات هذه الخصّيصة المنفتحة لأنفاس النص وإيحاءاته. تلك الأنفاس التي تصبُّ في “نغمة الألوهية” المتفرِّدة التي تُميِّز آيات القرآن الكريم. يكتب أحمد القبانجي: “”كل شخص يقرأ القرآن حتى القرآن المترجم إلى لغة أخرى يدرك جيدا أن الله هو الذي يتحدث معه بـ”نغمة الألوهية”، وأن البشر لا يمكنه الإتيان بمثله من هذه الجهة، أي من جهة النسبة إلى الله تعالى”[10]. كما نقرأ لعبد الله العروي يقول: “عزفت طويلا عن مطالعة مراجع الآخرين، توراة اليهود وأناجيل النصارى، حتى سافرتُ يوما إلى إحدى البلاد البروتستانتية حيثُ توضعُ نسخة من كتابهم المقدس في مجرّ على رأس كل سرير في الفنادق. استيقظت أثناء الليل ولم أستطع معاودة النوم ففتحت المجرّ وأخذت الكتاب. لم أتجاوز الصفحة الأولى إذ لم أجد فيه ما أجد في القرآن، تلك النغمةَ التي ترغمني على مواصلة القراءة”[11]. إنها النغمةُ التي تدِبُّ في أوصال تلك اللانسقيةِ الظاهرةِ في لغة الوحي؛ تلك النغمة التي تفتَح النصَّ على مُطلقِهِ، والتي كان يسْكرُ بحيرَتِها العارفون، حتى إن بعضَهم سكَنَته ونطقَت فيه بـ”أناها”، فلقيَ حتفَهُ حين لم يستطِع كتمَ صبابتهِ بها وظهور عدمهِ في وجودها[12].
الومضة الثانية: علي حرب والتباس المماهاة بين النص وقراءاته
علي حرب واحد من المفكرين المعاصرين الذين التبس عليهم أيضا أمر هذه “اللانسقية” المميزة للعقلانية القرآنية، كما كشفت عن ذلك آراؤهُ في أحد الحوارات الأخيرة[13]. فمع تقديري لأعمال الرجل على امتداد ثلاثة عقود في النقد والفلسفة وتفكيك الخطاب؛ فإنه لا يمكنني إلا أن أعبر عن اختلافي مع جم من تلك الآراء التي أدلى بها في هذا الحوار؛ ومن بينها اختلافُه مع الذين ينفون الإرهاب عن الإسلام، يكتب: “أنا أخالفُ الذين ينفون وجود علاقة بين الإسلام والإرهاب من المثقفين والساسة العرب والغربيين..”، مضيفا طامة أخرى وهي قوله في نفس السياق: “…ولا جدوى هنا من حشر القرآن في المجادلات الدائرة”، مفسِّرا ذلك بأمرين؛ “أولا، لأن القرآن يقول الشيء ونقيضهُ سواء في مسألة الإرهاب أم سواها من المسائل؛ وثانيا لأن الذي صنع هوية المسلم ليس هي قواعد التعارف والتواصل بين الناس، بل الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية التي أسست للعداوةِ بين المسلمين، ثم بينهم وبين سواهم”[14].
لن يكون بإمكاني هنا تقديمُ رد تفصيلي على ما يتخلَّل هذه الأفكارَ من ألوان التهافت، لكنني أجدني، ومن باب نقد نقد علي حرب، وانطلاقا من نفس المرجعية التي ظل يشتغل بها ومن خلالها، ألتقط التناقض الرئيس الذي يخترق هذا الرأي؛ وهو كونهُ يربط الإرهاب بالإسلام ويعيبُ على الذين ينفون العلاقة بينهما، وفي ذات الوقت يؤكد أن “الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية (هي) التي أسست للعداوةِ بين المسلمين، ثم بينهم وبين سواهم”؛ فكيفَ يطابقُ صاحب “نقد النص” و”نقد الحقيقة“، وفي تعميم مريب، بين “خطاب الدين” و”الخطاب عن الدين”؛ أي بين “الإسلام” بما هو نصوص وحيانية وكليات متعالية مؤسِّسَة، وبين “الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية” التي هي قراءات تاريخية لتلك النصوص والكليات؟؟؟… في حين أن المرجعية الحديثة لـ “القراءة” تؤكد ارتباط هذه الأخيرة بمحدِّدَاتها المنهجية والسياقية وخلفياتها الواعية واللاواعية، وهو ارتباط ما فتئ ينبه عليه علي حرب في أفقه النقدي التفكيكي؛ مما يجعل وقوعَه هنا في المماهاة بين النص وقراءاتِه أمرا يخالفُ الأسس الإبستمولوجية التي ما فتئ يشتغل بها وعليها علي حرب في عمله النقدي للنص والحقيقة.
وممَّا يزيد هذا الرأي تهافتا هو كون علي حرب، يؤكد أن القرآن “ليس نسقيا” وفي ذات الوقت يحمِّل الإسلامَ، الذي مدارُه حول النصوص الوحيانية، وزرَ “الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية”. ثم ما يُثيرُ الاستغرابَ أن علي حرب، صاحب التفكيك والنقد، يرى أن “القرآن يقول الشيء ونقيضَهُ سواء في مسألة الإرهاب أم سواها من المسائل”؛ مُعرِضا في ذلك عن محاورة كل تراث الدراسات القرآنية في فهم ما عدَّه تناقضا من جهة، وصادرا من جهة ثانية في ذلكَ عن رؤية مانوية لا تستوعب مفهوم “التناقض” في نص “لا نسقي” مفتوح؛ ومن منظور معرفي يبني بعد تفكيك، منظور منتِج للمعنى لا مُهْدِرٍ له، كما نجد معالم من ذلك ببهاءٍ في القراءات الصوفيةِ التي لم يستحضرها علي حرب وهو يُدين “الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية التي أسست للعداوة بين المسلمين ثم بينهم وبين سواهم”؛ فيما تلك القراءات، وخصوصا في شقِّها العرفاني، تقدم أفقا معنويا آخر للعلاقة الروحانية بين المختلفين عقديا، يخرجها عن دائرة الاستبعاد المتبادل إلى دائرة الاشتراكِ في أصل الاعتقاد لا في صوره المتعددة؛ على أن عدم استحضار هذا الأفق يعني مرة أخرى تهافتَ المطابقة بين تلك “الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية” وبين الإسلام.
على أن ما يعنينا بشكل مباشر هنا في حوار علي حرب هو البعدُ الإسقاطي والمغالطة التاريخية التي يقع فيها وهو يحاكم النص القرآني “اللانسقي”، ذا اللغة الشعائريةِ والأفق الغيبي والبعد النبوي والبسط القصصي والحِكَمي والاستعاري لقيم الدين ومتعالياته الأخلاقية…؛ يحاكمُ ذلك بمعايير الكتابة النسقية المغلقة المختلفة جذريا عن “تلميحات” الخطاب القرآني الشعائري والغيبي والأخلاقي، مما يجعل تلك المحاكمة ترى في هذا الخطاب “فوضى عارمة” و”غياب الانسجام” و”خروج عن المألوف”، كما سبق أن سجل ذلك محمد أركون[15]. فيما ذهبَ آخرون، كما رأينا سابقا، إلى تقديم قراءة ما بعد حداثية لما يُعَدُّ “لا نسقيا” في القرآن الكريم، الأمر الذي أفضى إلى نتائج مثيرة وغير متوقعة. وهي قراءة، سواء اختلفنا أم اتفقنا معها، ترسم مسارا آخرَ لتلقي اللغة القرآنيةِ و”لا نسقيتِها” بشكل أوْأمَ وألأمَ للخلفيات الفلسفيةِ التي ما فتئ يُبَشرُ بها علي حرب في كتاباته.
وإجمالا، فإن خلط علي حرب بين الإسلام وقراءاته، واختزال الإسلام في الأنساقِ الكلامية والمنظومات الفقهيةِ، وعدم اعتباره لموروث هائل من الدراسات القرآنية، ونأيه عن استثمار أفقه النقدي التفكيكي للخروج من النظرة المانوية نحو فهم جدلي يتجاوز المنطقَ الأرسطي ليستوعب ما يعده “تناقضا” كعنصر بنيوي في تشكيل حقيقة نص “لا نسقي” مفتوح، ثم عدم استيعاب خصائص اللغة القرآنية بعيدا عن كل إسقاط أو مغالطة تاريخية…..كل ذلك أفضى بعلي حرب إلى الوقوع الشنيعِ في الربط الماهوي بين الإسلام والإرهاب، واستبعاد القرآن الكريم من إنتاج قيم رحموتية إنسية كونية تستوعب خصائص اللغة القرآنية في أفق قرائي يذهبُ بالنص نحو إعادة امتلاكه، ويجعله منتِجا للمعنى مغذيا له معرفيا وروحانيا وأخلاقيا في السياقِ المعاصرِ وضمن رهاناته، وهو ما يلائم روحه في نظرنا، لا أفقا يتعسف على القرآن فيماهي بينه وبين قراءات تُذكي الإرهابِ، وتسهم في توسيعه وتغذيته بإلغاء كل إمكان قرائي لإنتاج تلك القيم الإنسية الرحموتية الكونية، وهو الإمكان الذي يتيحه النص القرآني بشكل باهر وتزخر به ثقافتنا الإسلامية قديما وحديثا.
الومضة الثالثة: عبد الجواد ياسين والتباس “الدين والتدين” في النص
في لقاء مفتوح مع المفكر المصري عبد الجواد ياسين بتاريخ 12/01/2019 بمؤسسة “مؤمنون بلا حدود”، وتعيينا بصالون جدل بالرباط، أثارني جوابُ الأستاذ ياسين على سؤال طرحه أحد الحاضرين عن آيات الأحكام في القرآن الكريم، والتي يعتبرُها من معالم التدين في النص القرآني لا الدين؛ حيث ذهب عبد الجواد ياسين إلى إسقاط كل تعالٍ عن هذه الآيات، وهو في نظرنا ما يتوافق، بشكل من الأشكال، مع الداعين جهارا إلى إسقاط أو حذفِ الآيات التاريخية من النص القرآني، أي تلك الآيات ذات الصلة الوثيقة بأحداث ووقائع مخصوصة في زمن التنزيل وسياقه الاجتماعي والتاريخي والأنتروبولوجي.
ولنا على هذا الفهم الملتبِسِ اعتراضاتٌ من بينها:
- بغض النظر عن الاختلاف الذي قد يلحق التمييز بين آيات الدين وآيات التدين في النص القرآني؛ أي آيات القيم المتعالية والروحية والأخلاقية الكلية العابرة للأزمنة والأمكنة وآيات التقنينات والأحكام المرتبطة بطبيعة الإشكالات المطروحة على الرسول r زمن التنزيل وفي سياقه التاريخي والاجتماعي والثقافي المخصوص، فإن ثمة إغضاءً عن البعد المتعالي في آيات الأحكامِ نفسِها، والذي تستمده من “الوحدة البنائية العضوية للنص القرآني”، والضامِرة في مَنْشُودِ قراءةِ لا نسقية النصّ الظاهرةّ ذلك أن آيات الأحكام تتجاور وتتحاور وتتآثر وتتبادل التحديد مع آيات أخرى في نسيج قرآني يعيد بناء دلالية النص في أفق روحاني وشعائري ينطلق من التاريخ لينفصل عنه؛ وهو الأمر الذي يُسعف فيه الترتيبُ “التوقيفي” للآيات الذي لا يلتزم بالشروط التاريخية، وبذلك يشيد النصّ أفقا دلاليا متعاليا لا يتقيد بالتاريخ وتصير فيه للّغة كينونةٌ روحية تلبّي أشواقا وتنسج بواطن وتستجلب طاقة جوانية تنتظم في إدراك إيماني يتعذر وصفُه بالأدوات المفاهيمية التاريخية أو الوضعانية. هذا الإدراك الإيماني هو الذي يدعمه التجاورُ والتوالج البنيويان بين الآيات في النص كيفما كانت طبيعتها “الدينية”او “التدينية”، مثلما تدعمه التلاوة الشعائرية لتلك الآيات في الصلاة والتنسك والتعبد.
- إلى جانب هذا التعالي الذي تستمدُّه الآيات “التدينية” من داخل النص، ومن تلقيه الشعائِري والروحاني، ثمة أفق آخر في تلقي النص القرآني يُلغي ذاك النزوع إلى إلغاء التعالى وإسقاطه عن تلك الآيات، وهو تلقيها الإشاري العرفاني في التفاسير الصوفية للقرآن الكريم، بحيث يتم تأشير (من الإشارة الصوفية) تلك الآيات، وفتح دلالاتها على آفاق إدراكية روحية تنسجم مع كليات النص الروحية والأخلاقية، وتضمن لها الاستمرار في “التدليل” وإنتاج المعنى خارج سياقاتها التاريخية، وذلك بما يلائم بنيةَ النص وتلقيه الشعائري والروحاني. وهو أفق ظل منسيا في قراءة المفكر عبد الجواد ياسين، ومن يسير في اتجاهه.
ج-الأمر الثالث، أنه يمكن، وخارج التلقي التعبدي او الإشاري للنص، قراءةُ تلك الآيات “التدينية” قراءةً تاريخية تأويلية لا تاريخوية وضعانية؛ بمعنى أن لا نُقصيها ونسقطها بذريعة ارتباطها بسياق تاريخي انتهى وانقضى وتلاشت معطياتُه ومحدداته؛ بل أن نميز فيها بين المفهوم والمِصداق، أو قل بين “الموقف” و”المضمون” إذا استعرنا لغة المفكر المغربي عبد الله العروي[16]. فقد يكون المضمون تاريخيا، لكن الموقف، أي منطق التعامل مع الحدث في السياق المخصوص، هو المشمول بالتعالي. وهو أفق مفتوح للاستنباط وتجديد القراءة والتأويل متى ما توافر شرطا الاجتهاد العقلي والمجاهدة الروحية، وهما شرطان متضافران لا ينفصلان في القراءة العقلانية الإيمانية المستجيبة لخصائص العقلانية القرآنية. ولعل هذا هو الأفق الذي يجب فيه تجديد فهم القاعدة الأصولية التي تقول بـ”الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”؛ إذ ربما وجب الأخذ بمنطق الحُكم وفلسفته الأخلاقية والروحية الكامنة فيه، لا الأخذ بمنطوق الحكم الذي تغيرت شرائطُه التاريخية. وهنا يبدو وكأنّ الحكمَ الوارد في الآيات التدينية في ذاته ذو وظيفة بيداغوجية لاستبطان الموقف والمنطق لا المضمون والمنطوق في حرفيته. هكذا نخلص إلى أن ثمة أبعادا تدعونا إلى رفض المزالق التي يقودنا إليها توجه الأستاذ عبد الجواد ياسين الذي شرحه في كتابه “الدين والتدين” وأكده في لقاء “مؤمنون بلا حدود” المشار إليه، وسار فيه غيره إلى حد الدعوة إلى حذف آيات من القرآن الكريم. وهي دعوة، كما يبدو، داحضة متهافتة، لكونها لا تنتبه إلى مطب التجزيئية التي تقع فيها حين تفكّك أوصال النص وتشظّيه؛ فيما هي تسيء قراءةَ بنيتِه واستيعابَ إمكاناتِ الوحدة العضوية الضامرةِ في ظاهرِ لا نسقيته؛ وهو ما لا يؤهِّلُ هذه الدعوةَ، في نظرنا، لتكونَ مدخلا للإصلاح أو التجديد أو التنوير في التعامل مع النص القرآني في السياق الراهن.
وخلاصة القول، إن التعامل مع النص القرآني يقتضي الالتفات إلى خصائصهِ البنيوية، لغةً و”نغمةً” وأفقا؛ مثلما يقتضي الالتزامَ بشروط ميثاقِ القراءة التدبرية، والواردةِ معالمُها في النص نفسِه؛ والتي بموجبها يتم تبديد جملة من التباسات قراءته؛ حيثُ ندركُ ، من بين ما ندرك، أن اللانسقيةَ هي علامةٌ من علامات العقلانية القرآنية، وأن تلك اللانسقيةَ تُضمِرُ وحدةً عضوية ما تفتأ تتناسل في منشود القراءاتِ، وأنها تجعل النص مفتوحا لا يقبلُ إغلاقَهُ بالمماهاةِ بينه وبين قراءةٍ من قراءاتهِ؛ مثلما لا يقبل تجْزِيئهُ أو ابتسارَهِ بمبضعِ ثنائيات حديةٍ يتعذر عليها استيعابُ الديناميةِ الروحانية والمعرفية للنص، كما هو شأن ثنائية الدين والتدين، أو ثنائية التعالي والتاريخ.
[1] – العروي، عبد الله، “السنة والإصلاح“، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،2008 ، ص.74.
[2] – راجع: أركون، محمد، “قراءات في القرآن“، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 2017، ص.82.
[3] – Bidar, Abdennour ; «Un islam pour notre temps» ; Seuil, 2017 ; p.98-99.
[4] – راجع : الحراق، محمد التهامي، “في الجمالية العرفانية..من أجل أفق إنسي روحاني في الإسلام“، دار أبي رقراق، الرباط، 2020، ص. 36-37.
[5] – بنعبد العالي، عبد السلام، “جرح الكائن“، دار توبقال، الدار البيضاء، 2017، ص.125- 129.
[6] – راجع، مثلا، كتاب إيان ألموند، “التصوف والتفكيك – درس مقارن بين ابن عربي ودريدا”، ترجمة حسام نايل، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011، أو كتاب خالد بلقاسم، “الكتابة والتصوف عند ابن عربي“، دار توبقال، الدار البيضاء، 2004… إلخ.
[7] – نشرت أعمال هذه الندوة ضمن كتاب: “ابن عربي في أفق ما بعد الحداثة“، تنسيق محمد المصباحي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 2003.
[8] – المصباحي، محمد، “نعم ولا، ابن عربي. والفكر المنفتح“، منشورات ما بعد الحداثة، فاس 2006، ص.53-60.
[9] – المسكيني، فتحي، “الإيمان الحر أو ما بعد الملة…مباحث في فلسفة الدين“، مؤمنون بلا حدود، بيروت- الرباط، 2018.
[10] – القباجي، أحمد، “سر الإعجاز القرآني..قراءة نقدية للموروث الديني في دائرة الحقيقة القرآنية وتأصيل الإعجاز الوجداني“، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2009، ص.126.
[11] – العروي، عبد الله، “السنة والإصلاح“، المركز الثقافي العربي، الدر البيضاء، 2008، ص.78.
[12] – راجع: “الحلاج شهيد النغم”، ضمن كتابنا: “مباسطات في الفكر والذكر“، دار أبي رقراق، الرباط، 2019.
[13] – مجلة “يتفكرون“، العدد 11/2018.
[14] – نفسه، ص.152.
[15] – “قراءات في القرآن”، م.س، ص.82.
[16] – العروي، عبد الله، “نقد المفاهيم“، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2018، ص. 114.