بؤرة العزوف السياسي بعد جائحة كورونا
الدار / افتتاحية
مثلما للوباء والجائحة بؤرها التي تعرف انتشارا واسعا للفيروس والعدوى، فإن للسياسة وممارساتها بؤرها المقلقة التي يجتاحها الموقف الموحد والفكرة الجارفة، وقد تكون في كثير من الأحيان عميقة ومتجذرة في المجتمع بشكل ثقافي راسخ. ومن هذه البؤر السياسية المزمنة، بؤرة العزوف عن السياسة وعن أهلها ومؤسساتها ومناسباتها. نسب المشاركة الهزيلة في الانتخابات بكافة أنواعها، ودرجة الانتماء إلى الأحزاب السياسية، وحجم المبادرات السياسية الهادفة إلى تأسيس إطارات وهيئات جديدة كلها مظاهر تؤكد أن العزوف عن السياسة في المغرب ظاهرة مكرسة خصوصا في أوساط بعض الفئات كالشباب وسكان العالم القروي.
في 2007 شكلت الانتخابات التشريعية اختبارا شفافا لقياس مستويات العزوف السياسي. لم تتعد نسبة المشاركة في الاقتراع التشريعي آنذاك 37 بالمائة. ورغم هزالة الرقم فقد تم تشكيل المؤسسات التشريعية وعلى أساسها تشكيل المؤسسات التنفيذية، دون أن يثير هذا الرقم الصدمة التي كان يلزم أن يمثلها للبحث عن الحلول الناجعة لهذه الظاهرة. واليوم وسط هذه العزلة التي تعيشها الأحزاب السياسية بعد عجزها التام عن مواكبة تداعيات جائحة كوفيد 19، ومهزلة المقترحات التي قدمتها للجنة المكلفة بإعداد التصور التنموي الجديد، يمكننا الافتراض أننا مقبلون في المستقبل على تفاقم هذه المعضلة، ونحن على بعد أقل من سنة من موعد الانتخابات التشريعية المقبلة.
والذي يزيد من مخاوف استفحال العزوف السياسي، خصوصا في أوساط الفئات الشابة، هذه المشاهد التي تابعها الجميع منذ بداية حالة الطوارئ الصحية، وظهرت من خلالها الدولة بمؤسساتها ورجالها، في دور المنقذ الوحيد من الكارثة، والبديل الوحيد لكل الهيئات والمنظمات الأخرى، وكرست تلك الصورة الانتهازية والمتواكلة للأحزاب باعتبارها هيئات لا تبحث إلا عن المزيد من المكاسب السياسية والمادية، ولا تظهر وتتواصل مع المواطنين إلا في فترات الاستحقاقات الانتخابية التي تبحث عن النجاح فيها. وكم كانت التجربة الإيطالية معبرة عن هذه الانتهازية، عندما تبين أن الكارثة الوبائية التي حلت بروما كان من ورائها خلاف بين أحزاب الموالاة والمعارضة حول فرض قيود الإغلاق والحجر الصحي قبل وصول الفيروس إلى البلاد. وقد رأينا كيف قادت هذه الخلافات إيطاليا إلى كارثة صحية وجعلتها أكثر بلدان العالم تضررا من الفيروس.
من منطلق هذا الواقع، لن نبالغ إذا توقعنا أن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة قد تمثل محطة مفصلية لاختبار هذا السيناريو المسيء لصورة السياسة في المغرب، ولمستقبل التعددية والتجربة الديمقراطية الوطنية. كنا قبل الجائحة ننتظر ما ستتخذه الحكومة من إجراءات تشريعية ومؤسساتية لتعزيز المشاركة السياسية لدى عموم المواطنين، بل بلغ الأمر بهذه الرؤية المتفائلة حد الحديث ومناقشة مقترح فرض غرامات مالية على العازفين عن التصويت في الاقتراع على سبيل المثال، لكن وبعد أن كشفت جائحة كورونا عورة السياسة والسياسيين، وأجهزت على البقية الباقية من صورة الأحزاب والمتحزبين، يصبح المطلوب أكبر وأعمق بكثير لإنقاذ الاستحقاقات المقبلة.
لقد وضع العجز الحكومي أمام الجائحة، واستفحال تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية في المجتمع، وانهيار مقولة “الاستثناء المغربي”، كل الهيئات الحزبية على المحك، وزاد من هوة العزلة التي تفصلها عن المواطن، ولذلك فإن إعادة الاعتبار للعمل السياسي ولمكوناته الحزبية والمدنية أضحى اليوم في حاجة إلى معجزة ديمقراطية حقيقية تنقذه من براثن العزوف والطلاق البائن الذي كرسته تجارب الماضي بين المواطن وبين السياسة.