الدار/ رضا النهري:
آخر الأوبئة الفتاكة الكبرى التي عاشها العالم كانت قبل حوالي مائة عام، وبالضبط ما بين 1918 و1921، حين قضى الطاعون الإسباني على أزيد من 50 مليون من البشر، متفوقا بذلك على ضحايا الحربين العالميتين الكبيرتين في القرن نفسه.
جاء الطاعون مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، وهي الحرب التي شهدت استعمال أسلحة حديثة، بمقاييس ذلك الوقت، ودخلت الطائرات لأول مرة أتون المعارك، وكان الناس يعتقدون أن تلك الحرب قد وصلت أعلى مدارج الرقي التكنولوجي.
لكن مباشرة بعد نهاية الحرب، وما خلفته من كوارث إنسانية واقتصادية، بدأ فيروس الطاعون يضرب في كل مكان، بدءا بأوربا، التي كان سكانها يعتقدون أن الحرب أسوأ ما يمكن أن يحدث، فاكتشفوا أن الأوبئة أسوأ بكثير من الحروب.
في طاعون 1920 بدا جليا أن التطور التي يصله البشر في اختراع آلات القتل والدمار في الحروب يفوق بكثير الاختراعات للحفاظ على أرواح البشر، لذلك فإن الاختراع الأكبر الذي لجأ إليه الناس وقتها هو الكمامة، فرغم كل آلات الدمار التي صنعها الإنسان في الحرب، فإنه لم يجد أمامه سوى خرقة ثوب بيضاء ليحمي بها نفسه.
مرت مياه كثيرة من تحت الجسر منذ 1920، وها نحن في 2020، أي بعد قرن كامل، وهو قرن كان مليئا بالمفاجآت السارة والمحزنة، فقد صنع الإنسان آلات فتك أكثر دمارا بكثير، وتوصل لصنع قنابل نووية يمكنها أن تفني العالم في ساعات، وصارت الصناعات التكنولوجية المدنية والعسكرية تصيب بالدهشة، حتى اعتقدنا أنه لن يعود هناك مكان للمزيد.
لكن فجأة حدث ما لم يتوقعه أحد، وعاد إلينا الطاعون الإسباني، لكن هذه المرة باسم جديد، وتحول الإنسان إلى كائن بدائي بكل ما في الكلمة من معنى، كائن عاجز تماما أن يحمي نفسه أمام فيروس يتلاعب بمصير البشرية.
وكما حدث قبل مائة عام، حين احتمى الإنسان بخرقة الثوب البيضاء، فكذلك حدث اليوم، حين احتمى العالم بالكمامة، لأنها الوسيلة الوحيدة التي لم تتطور، لكنها الوسيلة الوحيدة التي بقيت قادرة على ترجمة حال البشر الذين يعتقدون أنفسيهم ينافسون سرعة الضوء.. وهم في أماكنهم قاعدون.