أخبار الدار

المغرب – إسبانيا: حين تنتصر الحكمة على خفافيش الظلام

زهير داودي*

عكس ما سطرته بعض التيارات السياسية اليمينية واليسارية في شبه الجزيرة الإيبيرية، من خطط ومحاولات لإحداث تصدع في العلاقات بين الرباط ومدريد، فإن الزيارة الرسمية الأخيرة التي قام بها العاهل الإسباني فيليبي السادس إلى بلادنا (يومي 13 و14 فبراير الحالي)، قد دحضت كل تلك الخطط والمحاولات، وجعلت من البلدين الجارين، أكثر من أي وقت مضى، حليفين إستراتيجيين يعرف كل واحد منهما مَالَهُ ومَا عَلَيْهِ.

لقد راهنت تلك المحاولات على خلق هوة بين المملكتين من خلال مقالات و"تحليلات" سخرت لها الطابور الخامس من أجل تحقيق غرض تكريس العلاقات القديمة المبنية على منطق الإستعلاء والعجرفة والتبعية: علاقة "مُسْتَعْمِرٍ" ب"مُسْتَعْمَرٍ".

لقد تنبه أصحاب القرار في البلدين إلى أن هذه المناوشات المغرضة يجب الترفع عنها بوضعها في إطارها وحجمها، والتركيز على المضي قدما في كل ما يمكن أن يُفِيدَ الشعبين الصديقين والجارين من خلال رؤية مشتركة إلى الأمور الأساسية والتطلع إلى المستقبل بعين التفاؤل، حتى بِتْنَا نسمع بإحياء مشروع الربط القاري بين الدولتين، ومن خلاله تمكين القارتين الأوروبية والإفريقية من جسر حقيقي للتواصل المباشر.

إن العلاقات بين الدول لا تُنْسَجُ لا من خلال "تسريبات" ولا عبر مقالات ولا بـ"تحليلات"، بل من خلال النظرة المعمقة للمصير المشترك، وما يمكن أن يَنْتُجَ عنه من فوائد ومكاسب متبادلة يكون لها الوقع المطلوب والأثر الإيجابي الملموس على المستويات الإقليمية والجهوية والدولية.

ومن المهم القول إن الحكمة في الترفع عن تلك المناوشات هي التي جعلت المغرب، كما كان دائما، ينظر إلى إسبانيا كشريك إستراتيجي وجار تاريخي يمكن للتعاون بينهما أن يخلق الأثر الطيب على مستقبل العلاقات مع أوروبا بالخصوص، فيكفي أن نسرد ما حققه المغرب مؤخرا من انتصارات منطقية ومستحقة ليس على الجبهة المزعومة (بوليساريو)، بل على دولة جارة لا تدخر أي مجهود ولا تفوت أدنى فرصة للنيل من المملكة والتشويش على مجهوداتها الدؤوبة لتبوأ المكانة اللائقة بها.

ومن الجلي جدا أن العلاقة بين الرباط ومدريد هي حاليا في دائرة الضوء، ومن المهم أن ندرك أنها من الآن فصاعدا أساسية وحيوية بالنسبة للبلدين ولشعبيهما ولاقتصاديهما ولمصالحهما  المتنوعة. وبكل تأكيد، فالكثير من المصالح بينهما أضحت اليوم متقاربة ومتقاطعة ومشتركة ومتبادلة. ومن هنا يمكن إنجاز  ما هو أفضل مما أنجز في المراحل السابقة.

ولذلك، فإن الزيارة الرسمية التي قام بها العاهل الإسباني لبلادنا وُصِفَت ب"الإستراتيحية" لأنها أتت، بعد عدة تأجيلات بسبب مسائل متعلقة بالأجندات، في وقت تحتاج فيه هذه الشراكة الإستراتيجية بين الجارين إلى تأكيد متجدد على أعلى مستوى يعكس مسارات علاقة لا غنى عنها.

وقد ظهر جليا سواء من خلال المباحثات السياسية المعمقة بين عاهلي المملكتين أو من خلال التوقيع على 11 اتفاقية تشمل عدة مجالات كالطاقة والأمن والثقافة وفي صدارتها الوثيقة القانونية المؤسسة ل"شراكة إستراتيجية شاملة"، أن البلدين يراكمان تعاونا مجتهدا ومثاليا ومثمرا على مستوى كل الفضاء الأورو – متوسطي.

وكما نرى، فإن العلاقة المغربية – الإسبانية واسعة وغنية ومنفتحة على حتمية المستقبل المشترك، فما يوحد بين البلدين وشعبيهما، هو من دون شك، أكثر أهمية واستراتيجية مما يمكن أن يفرق بينهما. وفي كل الأحوال، فإن إرادة الرباط الصادقة من أجل بناء علاقة متميزة مع مدريد كانت دائما معلنة على الرغم من بعض المشاكل التي طرأت في الماضي القريب.

وبشكل عام، فإن الأهم الآن أصبح في حكم المكتسب، أي الاقتناع المشترك من كلا الجانبين بأنهما ليسا محكومين فقط بالتوافق بسبب "دكتاتورية الجغرافية" كما قال ذات مناسبة الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، أو حتى  بفعل ثقل التاريخ، ولكن أيضا بالبحث عن أفضل الطرق وإبداع أنجع الآليات الإقتصادية والإستثمارية الكفيلة بالإسهام في تحقيق ازدهار الشعبين الإسباني والمغربي.

نهج سياسة التوازن مع الجميع 

لقد ظل المغرب، دائما وبقناعة لا لبس فيها، يمد يده إلى إخوته الأشقاء بهدف الرقي الفعلي والمثمر بالعلاقات الإقتصادية والسياسية والدبلوماسية، غير أن ذلك فُهِمَ – على ما يبدو – بطريقة خاطئة لم تنعكس بالسلب إلا على الدول المعنية التي، ربما، ظنت أن الرباط بمواقفها المنفتحة والتي تأخذ عاملي التاريخ والجغرافية بعين الإعتبار، قد تشكل نقطة ضعف لها، بيد أنها هي – في الواقع –  نقطة قوة ومصدر مناعة.

وغير خافٍ على المراقبين الموضوعيين أن المغرب دأب في العقدين الأخيرين على سَنِّ ونهج سياسة التوازن المسؤول في العلاقات مع الجميع، مفضلاً أن يكون الأخ والصديق بدلاً من تبني بعض المواقف التي قد تضيف المزيد من صب الزيت على نار بعض الأزمات المشتعلة، وتعمق الهوة بين الإخوة الأشقاء. 

لقد تبوأ المغرب، بفضل تبصر وحكمة رئيس الدولة، جلالة الملك محمد السادس، مكانة خاصة على المستوى الدولي أفرزتها مواقفه السياسية المسؤولة والمستقلة التي لا تخدم إلا مصالحه العليا ولا تضر بمصالح الآخرين. وهنا نستحضر ما جاء في خطاب عاهل إسبانيا فيليبي السادس، يوم الخميس 14 فبراير الحالي، بمناسبة انعقاد المنتدى الإقتصادي المغربي – الإسباني في الرباط. لقد قال ملك جارتنا الشمالية، أمام نخبة من كبار المستثمرين في البلدين، إن المملكة المغربية كانت ولا تزال الدولة المرجعية في المنطقة وفي محيطها، والبوصلة التي لا يمكن إلا الرجوع إليها من أجل استشراف مستقبل العلاقات بين الدول إقليميا وجهويا.

من دون شك، يمكن القول إن دول الإتحاد الأوروبي قد استوعبت هذه المكانة التي تتمتع بها الرباط، وصادقت بأغلبية كبيرة على اتفاقيتي الزراعة والصيد البحري رغم كل الضغوط القوية الممارسة من لوبيات تُمَوَّلُ بسخاء مفرط من الغاز الطبيعي للدولة الجارة. ولم يكن هناك ما هو أحسن من التعبير عن هذه المكانة من زيارة فديريكا موغيريني، الممثلة العليا للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، التي حلت بالمغرب للتأكيد على هذه المكاسب ودحض كل المحاولات الرامية إلى خلق التشويش وزرع بذور البلبلة والخلاف بين القطب الأوروبي وشريكه الأهم والأوثق في جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط.

هذا الوزن المعتبر الذي يتمتع به المغرب لم يعد خافيا أيضا على الإدارة الأميركية التي سارعت، رغم كل الضغوطات ومحاولات التأثير من جانب من يسمون ب"المناوئين" لمصالح المملكة والمعروفين بمواقفهم العدائية وخاصة من قضية الصحراء المغربية، إلى المصادقة على الميزانية المخصصة للمساعدة المقدمة للمملكة برسم سنة 2019، والتي تشمل كافة ربوعها بما فيها أقاليم الصحراء المغربية.

نحن، هنا، لسنا بصدد تعداد المكاسب الدبلوماسية والإنتصارات السياسية، بل نحن بصدد وقفة لنقول إن بلدنا هو حاليا، وأكثر من أي وقت مضى، يسير بثبات على السكة الصحيحة، وإنه بات مطلوبا مِنَّا أن نكون في مستوى هذه المكاسب، وأن نحرص على إبقاء شعلة التعبئة الشاملة متقدة بقصد تثمين هذه المكتسبات وتطويرها من خلال الدفع في اتجاه إنتاج دينامية محفزة تشمل كل الدول التي اختار بلدنا أن يكون شريكا لها خاصة وأننا حققنا ما أصبح من الواجب علينا تسويقه بالشكل الصحيح واللائق، وهذا التسويق يحتاج إلى إعمال الذكاء في إختيار أحسن وأنجع الموارد البشرية وتوفير أدوات العمل الفعالة التي من شأنها أن تواكب هذه المجهودات المبذولة بأفضل الطرق الممكنة، وتساهم في قيادة قطار التنمية بأقصى سرعة مثلما نجحنا في الدخول إلى نادي القطارات ذات السرعة الفائقة (LGV) على غرار البلدان المتقدمة.

وقد قيل: "ليس المهم أن تصل إلى القمة، ولكن الأهم أن تحافظ على البقاء فيها"، هي حكمة بليغة تفيد بأن الفرق بين ما نفعله وما نحن قادرون على فعله، يمكن أن يقودنا إلى الأحسن والأفيد على جميع الأصعدة.

*صحافي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × أربعة =

زر الذهاب إلى الأعلى