الدين والحياةسلايدر

منطق حمو النقاري في تحرير ابن تميمة من الاختزال

بقلم: منتصر حمادة

ابن تيمية “المنطقي” أو منطق “الرد على المنطقيين”، هو أحدث إصدارات حمو النقاري، وصدر مؤخراً عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت (ط 1، 2021، 184 صفحة)، ويمكن إدراج العمل في ما يمكن الاصطلاح عليه بـ”تحرير ابن تيمية من الاختطاف” الذي تعرض له خلال العقود الأخيرة، من طرف بعض أدبيات تيار “الصحوة الإسلامية”، وبيان ذلك كالتالي:

منذ عقود، وبعض الدول المشرقية منخرطة في الترويج لأعمال ابن تيمية، وفي مقدمتها موسوعة “مجموع الفتاوى”، لابن تيمية، وهي الموسوعة التي حررت في سياق زمني وحضاري مختلف عن السياق الزمني والحضاري للدول الإسلامية في العصر الراهن، حتى إن العديد من الحركات الإسلامية، السياسية والقتالية، وظفت مضامين أعمال ابن تيمية في سياق “تأصيل” ممارستها الميدانية، كما جرى مع أدبيات “السياسة الشرعية” مع حركات الإسلام السياسي، أو فتوى التترس مع الحركات الإسلامية القتالية

ونورد هنا مثالاً واحداً يلخص معضلة التعامل مع متن ابن تيمية، وتبعات هذا التعامل على الخطاب الديني في المنطقة، ويهم الأمر “فتوى ماردين”، والتي حررها ابن تيمية حينها، في سياق تعامله مع غزوات المغول والتتار للأناضول والشام، حتى إن التتار آنذاك استولوا على بلدة حران وهي مسقط رأس ابن تيمية، فخرج هو وأهله من البلدة متجهين صوب دمشق، وبعدها استولوا على بلدة ماردين، وكان أهل ماردين أغلبهم من المسلمين، وكان التتار، بحسب رؤية ابن تيمية، من المعتدين الكفار. فأصبحت ماردين بلدة أغلبها مسلمين ويحكمها غير المسلمين. وكان فقهاء الإسلام يقّسمون البلاد إلى دار إسلام أو دار كفر، وحسب أوضاع ماردين في تلك الفترة، فلم يكن من الواضح في أي صنف هي، فسئُل ابن تيمية عن هذه المسألة، ليُحرر فتواه الشهيرة، باعتباره أحد أهم المراجع الفقهية حينها.

نحن نتحدث عن فتوى صدرت منذ سبعة قرون ونيف، وبالرغم من ذلك، سوف توظفها الحركات الإسلامية القتالية في التعامل مع شعوب وأنظمة المنطقة العربية، بكل نتائج هذا التوظيف، مع ما صدر عن جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، أو مع تنظيم “القاعدة” وتنظيم “داعش” وباقي الحركات “الجهادية”، ويجب التذكير هنا، أن اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، تأسس على “تأصيل شرعي” إسلاميو، ينهل من هذه الفتوى التيمية.

كان على شعوب المنطقة انتظار أبريل 2010، حتى يُنظم مؤتمر إسلامي دولي بمدينة ماردين، للاشتغال على هذه الفتوى، أي إننا انتظرنا تسع سنوات تقريباً بعد اعتداءات 11 سبتمبر ، حتى يُنظم المؤتمر، وعرف مشاركة العديد من الفقهاء والعلماء، وجاءفي بيان المؤتمر عدة نقاط منها أن “فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في ماردين لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون متمسكاً ومستندا لتكفير المسلمين والخروج على حكامهم…بل هي فتوى تحرم كل ذلك”.

في هذا السياق إذن، تأتي أهمية هذا الكتاب الذي صدر عن عالم المنطق، المغربي حمو النقاري، أي سياق المساهمة في تحرير أعمال ابن تيمية من الاختطاف الإسلامي الحركي سالف الذكر، وهذه مهمة تهم العديد من الأسماء في الواقع، من قبيل أبو يعرب المرزوقي (مع صرف النظر عن مواقفه السياسية المتقاطعة مع الخطاب الإسلامي)، وطه عبد الرحمن (الذي استفاد من أعمال حمو النقاري حول المنطق، مع العمل بالملاحظة نفسها بخصوص التعامل مع المرزوقي، أي صرف النظر عن مواقفه السياسية التي تتقاطع مع المواقف الإسلامية الحركية، كماء جاءت في كتابه “ثغور المرابطة”)، والباحث المصري هاني نسيره الذي ألف كتاباً يصب في هذا الاتجاه بعنوان “متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية”، وأسماء أخرى.

مما يُحسبُ لحو النقاري، أنه متمكن من علم المنطق، بل إنه أحد رموز هذا العلم في المغرب والمنطقة العربية، وليس صدفة هذا الانفتاح المحلي والعربي والإسلامي على أعماله، بما في ذلك انفتاح الباحثين الخليجين على أعماله، وقد سبق له الاشتغال على أعمال ابن تيمية، ونخص بالذكر هنا كتابه الذي يحمل عنوان “المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني من خلال أبي حامد الغزالي وتقي الدين بن تيمية”، حيث اشتغل النقاري في هذا العمل عند موضوع توظيف المنطق اليوناني عامة، والأرسطي خاصة، في تقنين البحث الفقهي ــ الذي يُصطلح عليه عند العلماء المسلمين بعلم “أصول الفقه” ــ من خلال موقفين متعارضين منه: موقف أبي حامد الغزالي، وموقف تقي الدين بن تيمية. (صدر الكتاب عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط 1، 2013. 304 صفحة، من الحجم المتوسط، ووجب التذكير بأنه صدرت نسخة من العمل ذاته عن دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ومؤرخة في 2010).

كتاب ابن تيمية “المنطقي” أو منطق “الرد على المنطقيين”، عبارة عن خلاصة اجتهاد نظري للمؤلف، اختص أصالة بالاقتصار فقط، على التنصيص المبرز للمواقف المنطقية الثابتة، كما جاءت في أشهر أعمال ابن تيمية حول المنطقة، أي كتاب “الرد على المنطقيين”، بهدف استخراج وإبراز النصوص الدالة على مواقف ابن تيمية المنطقية ونشرها ومن السكوت عن النصوص الأخرى ذات الصلة بالمواقف التيمية الخاصة، سواء تعلق الأمر بالنصوص العقدية أو النصوص الفقهية أو النصوص السلوكية، الواردة هي أيضاً في “الرد على المنطقيين”. (أشار حمو النقاري إلى أنه اعتمد هنا على الطبعة الأولى من كتاب “الرد على المنطقيين”، والصادرة عن مؤسسة الريان (1426 هــ/ 2005م)، بتحقيق الشيخ شرف الدين الكتبي ومراجعة وإعداد محمد طلحة بلال منيار).

من الملاحظات التي يجب على الناقد استحضارها في معرض التعامل مع هذا الملف المؤرق الذي يحمل عنوان “ابن تيمية المنطقي”، أن الاشتغال في هذا المضمار ليس أمراً هيناً في المجال الثقافي الإسلامي، أي مهمة استخراج النصوص المنطقية في متن أعمال ابن تيمية، المعروف أساساً بغزارة الإنتاج، واختزال أعماله في النصوص العقدية والفقهية، لأن أي باحث يروم ذلك، عليه بداية أن يجمع بين محددين اثنين على الأقل، بصرف النظر عن مرجعيته العلمية: محدد التمكن من علم المنطق، ومحدد التبحر في أعمال ابن تيمية، وهذان محددان ينطبقان على عدد قليل من أقلام المجال الثقافي الإسلامي، ومنهم حمو النقاري، وهو الذي صدرت أغلب أعماله في باب المنطق دون سواه، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، الكتاب سالف الذكر حول “المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني” [1992 بالنسبة للطبعة الأولى]؛ “منطق الكلام من المنطق الجدلي الفلسفي إلى المنطق الحجاجي الأصولي” [2005]، “المنطق في الثقافة الإسلامية” [2013] ؛ “أبحاث في فلسفة المنطق” [2013]؛ “في منطق بور رويال” [2013]؛ “منطق تدبير الاختلاف من خلال أعمال طه عبد الرحمن” [2014]؛ “روح التفلسف” [2017]، “روح المنهج” [2018]، إضافة إلى كتابه الموسوعي والصادر تحت عنوان “معجم مفاهيم علم الكلام المنهجية” [2016].

إذا تركنا جانباً مقدمة العمل، وجاءت في صفحتين (13 و14)، فإن مُجمل نصوصه، هي نصوص ابن تيمية، مع حضور بصمة أو لمسة النقاري التي تكمن في التصنيف المنطقي لتلك النصوص، وهذه هي الإضافة النوعية للعمل، لأن استخراج لأفق المنطقي لنصوص ابن تيمية من “الرد على المنطقيين”، وتصنيفه، أمر ليس هيناً، واتضحت هذه العملية المركبة في عناوين الأبواب الثلاثة للكتاب، وجاءت كالتالي: المبادئ العامة الموجهة لكلام ابن تيمية في المنطق اليوناني [ص 17 ــ ص 64]؛ المبادئ الموجهة لكلام ابن تيمية في “نظرية التدليل المنطقية” [ص 65 ــ ص 124]، وأخيراً، المبادئ الموجهة لكلام ابن تيمية في “نظرية التعريف المنطقية” [ص 125 ــ ص 184].

كما نقرأ تحت كل باب من هذه الأبواب، عناوين نصوص لابن تيمية، تمّ تصنيفها في الشق المنطقي، سواء تعلق الأمر بالنهل التيمي العام من المنطق اليوناني، في شقه الصوري على الخصوص، أو النهل من نظرية التدليل أو النهل من نظرية التعريف، كأن نجد العناوين التالية في الباب الأول: “بنية المنطق وأجزاؤه واصطلاحاته”، “توجه لا صوري في الرد على المنطق الصوري”، “الرسالات النبوية صادقة مضموناً وصحيحة منهجاً”، “في كون المنطق اليوناني ميزاناً للعلوم”، “في العلم الإلهي”؛ أو نجد العناوين التالية في الباب الثاني: “حقيقة الاستدلال”، “مفهوم الدليل”، “التوسط بالدليل والاحتياج إليه”، “النظر الاستدلالي بالآيات”، “البنيات القياسية الصورية والتكافؤ بينها”؛ أو العناوين التالية في الباب الثالث: “الطابع التحكمي المحض لما اشترط منطقياً في صحة التحديد”، “الطابع الدوري والقبلي للتعليم المنطقية في التحديد”، وجوه إثبات استغناء تصور المفاهيم النظرية عن مراعاة شروط التحديد المنطقي لها”، “المقاربة الإسمية في التنظير لأفعال التحديد”.

وقد جاءت العناوين الفرعية في الأبواب الثلاثة، من اختيار المؤلف، في سياق إدارته للنصوص المنطقية المناسبة للعنوان المعني، والمستخرجة من متن “الرد على المنطقيين”، مع ضبطها لغةً وبناءً ومع ترقيمها ترقيماً تسلسلياً من شأنه تسهيل الإحالة إليها مستقبلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى