الدين والحياةسلايدر

أثر المعتزلة في الفكر الإسلامي الحديث

بقلم ✍️ منتصر حمادة

“أثر المعتزلة في الفكر الإسلامي الحديث: محمد عمارة أنموذجاً”، هو أحدث أعمال الباحث التونسي عمار بنحمودة، وصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث (الرباط)، المركز الثقافي العربي (بيروت ـ الدار البيضاء). (جاء العمل في 270 صفحة).

نقرأ للمؤلف أن الفكر الاعتزالي فكر تراثي قديم نشأ في إطار علم الكلام، وكان هاجسه الدفاع عن عقائد الملة تجاه من كانوا يهددون كيانه في الداخل والخارج. ومن الواقع السياسي الذي عاشته الدولة الإسلامية زمن حكم الأمويين، نشأت قضايا المعتزلة، فخرج من بين موقف الخوارج “المتشدد” وموقف المرجئة “المتساهل”، موقف وسط يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ونشأ فكر المعتزلة متورطاً في شواغل عصره، فتَفَاعَلَ معها. وبتفاعلها مع الواقع تطورت مقولات المعتزلة، وتفرعت، فتنوعت وعبرت عن اختلافات محمودة في قضايا دينية متشعبة، كان لها أثرها في الخاصة والعامة على حد سواء. ولم يكن الواقع لوحده محرك هذا الفكر، بل كان الجدل المذهبي محركاً آخر أسهم في تأكيد الاختلاف بين الفرق الإسلامية التي تطمح في مشروعها “الثيولوجي” إلى أن تستأثر لوحدها بالجنة، وفي مشروعها الفكري والسياسي إلى أن تهيمن وتحكم.

يشتغل الباحث عمار بنحمودة، على تفاعل المفكر المصري محمد عمارة مع الفكر الاعتزالي، عبر طرح الأسئلة التالية: هل خضع الفكر الاعتزالي لـ[ما يُشبه] الانتقاء في أعمال محمد عمارة؟ وإن كان الأمر كذلك [ويبدو أن المؤلف يتجه في تأكيد انتقائية عمارة]؛ فأي معيار اتخذه عمارة في هذا الانتقاء؟ فماذا أخذ وماذا ترك؟ ولماذا نفر الرجل من الفرق الأخرى، فاختار منها فرقة واستهجن الباقي، والحال أن حقيقة الإسلام لا تفهم إلا في إطار تنوع المذاهب واختلاف المسلمين مللاً ونحلاً؟ (ص 12).

قد تبدو هذه الأسئلة غريبة من الوجهة العلمية، لأن مقارنة فكر قديم بآخر حديث لا يستقيم لاختلاف السياقات التاريخية التي نشأ فيها كل فكر، فلكل واحد منها معقوليته التي تخضعه، ولكن ما دام هذا الفكر يدعي لنفسه القدرة على أن ينافس غيره من الأنساق الفكرية، فإن المقارنة تصبح ممكنة بين الفكر الاعتزالي كما تلقاه محمد عمارة، ومن غيره من المقاربات التي تحاول النظر في المسائل نفسها، واستدعت إحياء فكر المعتزلة. ( 13).

المقارنة تصبح ممكنة بين الفكر الاعتزالي كما تلقاه محمد عمارة، ومن غيره من المقاربات التي تحاول النظر في المسائل نفسها، واستدعت إحياء فكر المعتزلة.

يندرج هذا العلم في إطار نقد الخطاب الديني [الإنساني/ البشري، وليس المقدس] الذي يُقدم نفسه، باعتباره مشروعاً معاصراً للنهضة الإسلامية، ينافس “بسلفيته العقلية” تيار “التغريب العلماني” الذي يحاول القطع مع كل التصورات التراثية. (ص 15). إنه، يضيف المؤلف، خطاب ديني يدعي لنفسه الوسطية بين تيار الغلو السلفي وتيار الغلو العلماني، وهو ما سيدعو الكاتب إلى إيضاح مفهوم “الوسطية” كما تمثله محمد عماره، محاولاً أيضاً النظر في مدى علمية هذا المفهوم وفق منطق الأنساق الفلسفية الحديثة التي اشتغلت على نقد الخطاب الديني. (اعتمد المؤلف مثلاً، في هذه الجزئية، على الآراء القيمة التي قدمها المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي في نقاشه لمفهوم الوسطية عند محمد عمارة، ونتحدث عن المرزوقي، رجل الفكر، وليس رجل السياسية، لأن الخوض في وجهه السياسي يُسيء كثيراً إلى وجهه الفكري، على غرار ما نعاين مع أسماء أخرى في الساحة، من قبيل المفكر المغربي طه عبد الرحمن، وخاصة بعد ورطة “ثغور المرابطة” [2018] التي كشفت عن مواقفه السياسية الاختزالية والإيديولوجية، بدليل الاحتفاء الإخواني بها، وهذا موضوع آخر).

جاء العمل موزعاً على ثلاثة أبواب، موزعة بدورها على ثلاثة فصول. وهكذا، جاء عنوان الباب الأول تحت عنوان “تاريخ المعتزلة”، متضمناً الفصول التالية: مقدمات تاريخية، إسهام الهنود المسلمين في إحياء تراث المعتزلة، إسهام المستشرقين في جهود إحياء المعتزلة.

أثر الاستشراق وفكر النهضة في مواقف محمد عمارة، هو عنوان الباب الثاني، وتضمن الفصول التالية: أثر التيار الاستشراقي، اثر رواد الإصلاح والتجديد، قراءة هرمينوطيقية لأثر الأفغاني وعبده في تلقي عمارة لفكر المعتزلة.

وأخيراً، جاء عنوان الباب الثالث كالتالي: أثر المعتزلة في فكر محمد عبده، وتضمن الفصول التالية: الآثار الدينية، الأثر القيمي، وأخيراً، قراءات في خطاب المعتزلة الجدد، محمد عمارة أنموذجاً.

خلُصَ الباحث في خاتمة الكتاب (ص 245) إلى أنه منذ المحاولات الأولى، لاستعادة تراث المعتزلة وتأويله، لم يستطع المفكرون المسلمون، وتحديداً الأفغاني ومحمد عبده، استعادة التراث لذاته، وإنما وظفت قراءتهم للتراث من أجل البحث في قضايا الواقع. وقد كانوا واقعين تحت تأثير التيارات الفكرية التي سادت عصرهم، والأنساق الفلسفية التي كانت فاعلة ومن كتاباتهم، وقد قضى الواقع بأن يوجه نظرهم نحو مشاكله، وهي الاستعمار والاستقلال والحرية والاستبداد والعدل والثورة.

بالعودة إلى تعامل المفكر المصري محمد عمارة مع الفكر الاعتزالي، اعتبر الباحث عمار بنحمودة، أن قراءة عمارة تجاهلت الواقع في بحثها عن حلول لمشاكل النهضة والهوية، وراحت تتعسف عليه،  لتحول إلى قوالب تصب فيها أفكارها، فأصبحت ترى في التاريخ اليوناني امتداداً لما صار عليه الغرب من عقلانية، ووحدت ثوابت قراءتها لثقافة الآخر، حتى صار الآخر المستهجن كفراً أو استعماراً، لتشرع الإعراض عنه، بينما أخضعت التراث إلى قراءة إقصائية راحت تنقد تراثه السني، وتستبعده من الأنموذج الذي تريد صياغته، كذا الشأن مع الفرق الأخرى كالخوارج والشيعة والمتصوفة، وصارت الحقيقة كامنة في الرؤية الاعتزالية التي أزاحت بفضل قراءتها الإقصائية كل المنافسين من تيار “السلفية النصوصية” أو “العقلانية الغربية الملحدة”، وهو ما أوقع هذه القراءة في هاوية “الإيديولوجيا” التي أعادتنا إلى ساحة الصراع التاريخي بين “النقل” و”العقل”؛ أي بين المعتزلة وأهل الحديث. (ص 246).

اعتبر الباحث عمار بنحمودة، أن قراءة عمارة تجاهلت الواقع في بحثها عن حلول لمشاكل النهضة والهوية، وراحت تتعسف عليه.

يكمن عيب هذا الخطاب أيضاً، حسب المؤلف، في تجاهله مكتسبات الواقع من العلوم الصحيحة والإنسانية والفلسفات المعاصرة والحديثة، فهو وعي يكتفي بالمقاربة الدينية، وكأن العقل لا يزال في مرحلة الطفولة الفكرية. (ص 247).

لقد انساق هذا الفكر من حيث لا يدري، وراء التيار الاستشراقي الذي يفصل بين الهويات، ويعتبر الغرب عقلانياً، بينما الشرق ينزع إلى الخيال، فقاد ذلك إلى نتيجتين رئيستين: السقوط في الفهم الذي أراده الاستشراق، فصارت الهوية ذات مفهوم منغلق؛ هيمنة النزعة الدفاعية، حيث صار الخطاب يسعى إلى تلميع صورة الذات، محاولاً الحمل على الإقناع أنها تمتلك في إطار تلك الهوية مقومات تضاهي الغرب في تقدمه، فكانت عقلانية المسلم مقابل عقلانيتهم، وحريتنا مقابل حريتهم، والشورى مقابلة لديمقراطيتهم، فوقع هذا الفكر في فخ التقليد بدل الإبداع والابتكار وولّى وجهة شطر المتخيل في الوقت الذي أشاح بوجهه عن الواقع. (ص 248).

كانت هذه فقرات عابرة من كتاب يحمل مطرقة نقدية تجاه أعمال المفكر الإصلاحي المصري، الراحل محمد عمارة، الذي كان يرأس اليوم تحرير المجلة الرسمية التي تصدرها مؤسسة الأزهر الشريف، وهي فقرات، لا تغني طبعاً، عن قراءة العمل ونقده، عملاً بقاعدة “كلٌ يُؤخذُ من كلامه ويُرد”، بتعبير الإمام مالك.

زر الذهاب إلى الأعلى