الدين والحياةسلايدر

إسلاميات.. ورطة رجال الفكر والدين في المعترك السياسي: نماذج وحلول

منتصر حمادة

من القلاقل النظرية التي نعاينها في الساحة المغربية والعربية والإسلامية، كلما تعلق الأمر بالتعامل مع أعمال بعض أسماء الساحة، هناك ظاهرة أو عقلية الثنائية الحدية، وخاصة مع الأتباع أو مع المنبهرين بالإسم المعني.
والمقصود بالثنائية الحدية هنا، ما يُشبه العقلية المانوية، أي عقلية الأبيض والأسود، عقلية إما معنا أو ضدنا، والتي نعاينها، على سبيل المثال لا الحصر، في تفاعل أتباع السلفية الوهابية مع أعمال ابن تيمية، أو تفاعل أتباع المرجعية الشيعية مع أعمال الخميني أو تفاعل أتباع جماعة “العدل والإحسان” مع أعمال عبد السلام ياسين، ضمن أمثلة، تهم العديد من الأسماء، من قبيل يوسف القرضاوي وطه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي، واللائحة تطول.
من نتائج هذه العقلية، أنها لا تقتصر على المجال النظري وحسب، وإنما تمتد إلى الممارسة والسلوك والمعاملة على أرض الواقع، بحيث تكون هناك قابلية للأتباع المعنيين، بأن يتعاملوا مع المعترضين أو المخالفين، كما لو كانوا أعداء لهم، هذا إن لم يصل الأمر إلى مرتبة الشيطنة أو حتى التكفير، ويمكن الاستشهاد هنا بما مرّت منه الساحة السورية بعد الفوضى “الخلاقة” [2011 ــ 2013]، عندما وصل الاعتراض أو الخلاف بين “الجهاديين” فيما بينهم، إلى مرتبة الاقتتال، بمعنى أنهم انتقلوا من القدوم إلى سوريا من أجل قتال النظام، في مرحلة أولى، ولكن تطور الأمر في مرحلة ثانية إلى قتال الجيش السوري الحر، لأنه لا علاقة له بالمرجعية الإسلامية الحركية، وفي مرحلة ثالثة، أصبح الاقتتال دائراً بين “الجهاديين” فيما بينهم.
رُبّ معترض أن موضوع أو مقال الحالة “الجهادية” في سوريا، لا علاقة له بالثنائية أعلاه، لولا أن أصحاب هذا الاعتراض إما جاهلون بمقتضى تطبيق الفكر إلى الواقع، أو سذج، لأن فعل إنسان ما، نتيجة تفكيره، وإذا كان هذا الإنسان، يملك قابلية لكي يُشيطن أو يُكفر من يختلف معه، فإنه يملك قابلية لتطبيق هذا التفكير إلى واقع مادي، في حال إمساكه بالسلطة. [هذه بالمناسبة، إحدى أعطاب المشروع الإسلامي الحركي في المنطقة، أي وجود مؤسسات دولة، تشتغل على صيانة الدولة الوطنية، وتطبيق القانون، وتدبير النزاعات، لأننا لسنا في غابة وإنما في دولة مؤسسات، وهي إحدى دروس المقارنة بين مصير “الفوضى الخلاقة” في مصر وليبيا، لأن مصر دولة مؤسسات، رغم ما يمكن قوله في نقد أداء هذه المؤسسات، بخلاف الحالة الليبية في عهد الرئيس السابق معمر القذافي] من أجل المساهمة في التصدي لهذه الظاهرة، نحتاج إلى جرأة علمية حقيقية، ونحتاج أيضاً إلى مجهودات مؤسساتية وتشاركية، إضافة إلى توعية هؤلاء الأتباع بخطورة هذا المنطق الفاسد في الاعتقاد، وبالتالي منطق فاسد في التفكير.
والملاحظ هنا، أن الساحة الإسلامية، ومن ذلك المدونة التراثية الإسلامية، تتضمن مجموعة من الأدبيات التي لا تسمح بتفشي هذه المعضلة، أو تتصدى لها، لولا أن نتائج تزييف الوعي باسم الدين والفكر، تغلغلت في الساحة منذ نصف قرن على الأقل، والأدهى أنها وصلت إلى الجامعات والمراكز البحثية التي من المفترض أن تنتصر للهاجس العلمي وليس للهواجس الإيديولوجية، وقد نتوقف لاحقاً بحول الله، عند أمثلة في هذا الصدد، تهم الحالة المغربية، من فرط الازدواجية أو التقية التي طالت العديد من هذه المراكز.
من بين الأمثلة التراثية الغنية بالدروس، ما اصطلحنا عليه بالقاعدة النقدية المالكية، وهي قاعدة ذهبية في النقد، والتي جاءت صيغتها التراثية كالتالي: “كلٌ يُؤخذ من كلامه ويُرد، إلا صاحب هذا القبر”، أو كما قال إمام دار الهجرة، والإمام مالك عند المغاربة، مرجعية دينية رسمية وشعبية، موازاة مع مرجعية العقيدة الأشعرية والعمل الصوفي، ومرجعية مؤسسة إمارة المؤمنين. بمعنى أننا لا نتحدث عن مرجعية شاذة أو غريبة أو مجهولة، وإنما مرجعية أصيلة، في صلب التراث الإسلامي المغربي، ومن المفترض أن تكون حاضرة في تعاملنا مع أي فاعل ديني أو فكري، فالأحرى التفاعل مع باقي الفاعلين في مجالات أخرى (سياسية، اقتصادية، فنية، رياضية.. إلخ).
كان الإمام مالك يقصد بصاحب القبر، المصطفى، عليه الصلاة والسلام، ونزعم أنه لا يوجد من يعترض على هذه القاعدة الذهبية، لولا أن التأييد شيء، والتفعيل على أرض الواقع شيء آخر.
نتوقف عند أمثلة بسيطة بخصوص بعض الأسماء أعلاه، قبل استعراض أحد المفاتيح النظرية، ولا يخرج عن التذكير، ولكنه تذكير نعتقد أنه مفيد في سياق التصدي لهذه المعضلة، ونخص بالذكر حالة يوسف القرضاوي من مصر وطه عبد الرحمن من المغرب:
ــ بالنسبة لحالة يوسف القرضاوي، والذي كان قبل أحداث “الفوضى الخلاقة”، يوصف أو يُلقب بأنه رمز الوسطية الإسلامية، ويحرر أعمالاً في تقويم العمل الإسلامي الحركي، منها كتابه “الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف”، ولكن القرضاوي نفسه، بعد اندلاع هذه الأحداث، هو الذي “أفتى” بمواقف خطيرة ضد العقيد معمر القذافي، على فضائية “الجزيرة”، كما لو كنا إزاء فاعل “داعشي”، وليس إزاء أحد رموز الوسطية.
ليس هذا وحسب، فالقرضاوي الذي حضر عند معمر القذافي ودعا له وبارك له، هو نفسه الذي أفتى لحلف “الناتو” من أجل إسقاط القذافي نفسه، والقرضاوي الذي وقف مع الرئيس السوري بشار الأسد، واستلم جائزة سورية رسمية، هو نفسه الذي ينقلب في موقفه من النظام نفسه انقلاباً مضاداً، ضمن أمثلة أخرى.
ـ نأتي لحالة طه عبد الرحمن، والذي ألف كتاباً هاماً حول ظاهرة “التطرف العنيف”، وهو كتاب حواري، بل نشرنا تدوينة حينها في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، ندعو فيها المسؤولين في إدارة السجون المغربية والعربية، إلى أهمية توزيع هذا الكتاب على المعتقلين في قضايا “التطرف العنيف”، من باب المساهمة النظرية في مشروع “المراجعات”.
طه عبد الرحمن صاحب “سؤال العنف” إذاً، هو طه عبد الرحمن نفسه صاحب “ثغور المرابطة” الذي يتضمن أحكاماً سياسية لا تختلف عن أحكام “الجهاديين” في السعودية، من قبيل اتهام السعودية بأنها “متحالفة مع أعداء الأمة” [كذا]، وهذا حكم يتكرر تسع مرات في الكتاب، كما لو أنها صادرة عن أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري، وليس عن طه عبد الرحمن، ضمن أمثلة أخرى.
ما نقترحه في سياق التعامل مع هذه المعضلة المؤرقة، مجرد تذكير، عنوانه العودة إلى تلك المصادر التراثية الإسلامية، التي تعفي الأتباع والمريدين من السقوط في مثل هذه المآزق النظرية والعملية في معرض التعامل مع هذه الأعمال، ومن ذلك، أهمية توعية هؤلاء، بضرورة استحضار البعد الإنساني وبالتالي النسبي في هذه الإصدارات والاجتهادات، فالأحرى استحضار المحددات النفسية والسياقات التاريخية والارتباطات الإيديولوجية وغيرها، تلك التي تقف وراء تحرير مُجمل هذه الأعمال، ولو استحضروا ذلك، ما كنا لنعاين هذه القلاقل في الساحة.
لنتوقف عند نموذج تطبيقي في حال العمل بتلك الأدبيات التراثية الإسلامية الأصيلة مع هذه الإصدارات، ويهم النموذج هنا، أعمال عبد السلام ياسين، الذي كان عضواً في طريقة صوفية، في مرحلة سابقة، قبل انفصاله عنها وتأسيس طريقة صوفية ــ سياسية:
لا يمكن الاعتراض على الخطاب الوعظي والتربوي الذي يُروجه ياسين، لأنه ينهل من مرجعية صوفية أساساً، بحكم تجربته الصوفية، وحتى لو كان من خارج الدائرة الصوفية، فالخطاب الوعظي سائد عند المسلمين ليل نهار، أقله ما تتضمنه خطبة الجمعة، التي لا تخرج وظيفتها عن التوجيه والوعظ والإرشاد.
ولكن الخطاب السياسي لياسين شيء آخر، ولا يمكن القبول به في زمن الدولة الوطنية، ونقصد خطابه حول “الخلافة على منهاج النبوة”، كأنه يُفكر بعقل ما قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية، في سنة 1924، بينما المغرب ومعه دول المنطقة، يعيش في حقبة الدولة الحديثة، ولا يشتغل على التأسيس لما يسمى “دولة الخلافة”.
هذا نموذج بسيط يهم أهمية استحضار نسبية مواقف وإصدارات تلك الأسماء، والتي غالباً ما تكون مواقفها رحبة في المجال الفكري والديني، ولكن، كلما طرقت الباب السياسي والإيديولوجي، كلما ورطت نفسها، وورطت من يروج أعمالها، وليس صدفة، أننا نعاين هجرة العديد من الأسماء التي كانت محيطة بالنماذج أعلاه، بمجرد خوضها في القلاقل السياسية والإيديولوجية، أو أن نعاين انفصال نسبة من أتباع جماعة “العدل والإحسان” عن المشروع، ضمن أمثلة أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى