الدين والحياةسلايدر

قراءات رمضانية..تبييض الإسلاموية الفرنسية في عمل بحثي

منتصر حمادة

في غضون يوليو 2019، صدر تقرير عن لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ الفرنسي، وجاء في 244 صفحة، وعرف مشاركة 20 عضواً في مجلس الشيوخ، وقد أشرف على التقرير حكيم القروي، الذي عينه الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون منذ سنين من أجل ترتيب المشهد الإسلامي المؤسساتي هناك، وكان مخصصاً للتدقيق في خريطة الإسلاموية الفرنسية.


أحصى التقرير وجود خمسة تيارات بارزة، وهي جماعة “الدعوة والتبليغ”، التيار السلفي، المشروع الإخواني، الحالة الجهادية، والمشروع الإسلامي التركي في فرنسا. وقد توقفنا حينها في سلسل حلقات هنا بموقع “الدار”، عند أهم مضامين التقرير.
بعد مرور سنة ونصف تقريباً على تاريخ هذا المنعطف الذي يُعتبر سابقة في الساحة الفرنسية، لأن الأمر يتعلق بانخراط مؤسسة تشريعية سيادية في الاشتغال على الإسلاموية، صدر مؤخراً في الساحة الفرنسية ذاتها كتاب جديد للداعية والباحث طارق أوبرو، إمام مسجد بوردو (جنوب غرب فرنسا)، والذي سبق له المرور من تجربة الانتماء للمشروع الإخواني في فرنسا قبل الابتعاد لاحقاً، والدعوة لما اصطلح عليه بـ”الإسلام الليبرالي”.
ويحمل الكتاب الجديد لأوبرو عنواناً جاء في صيغة استفسار: “أي مكانة للإسلام في الجمهورية؟”، ويمكن لهذا الكتاب أن يكون مناسبة جديدة للإجابة عن سؤال يهم ظاهرة الإسلاميين سابقاً، ومن أعضاء أو أتباع المشروع الإخواني الذي يُعلنون عن الانفصال النظري والتنظيمي عن المشروع، وتدور الخطوط العريضة لهذا السؤال حول حقيقة هذا الانفصال: هل يتعلق الأمر بانفصال نظري وتنظيمي بالفعل، أم أن المسألة نسبية، لأنه غالباً ما نعاين انفصالاً تنظيمياً دون أن يكون مصاحباً بانفصال نظري، كما هو الحال مع العديد من النماذج هنا في المنطقة العربية.
ومن بين المؤشرات التي تجعل قارئ الكتاب يقترب من الإجابة النهائية على السؤال أعلاه الخاص بطبيعة هذا الانفصال، عقد مقارنة بين عناوين ومضامين تقرير مجلس الشيوخ سالف الذكر، والذي كان صريحاً ومباشراً في الحديث عن وجود خمسة مشاريع إسلاموية في فرنسا، وبين أي إشارة أو إشارات محتملة حول الإسلاموية في كتاب طارق أوبرو.
في هذا السياق، جاء الكتاب في 160 صفحة، موزعاً على مقدمة وأربعة فصول. خُصّص الفصل الأول للحديث عن الإسلام عبر خطاب ينتصر للعموميات، وخاصة الحديث عن نشأة الإسلام، تأويل الآيات القرآنية بين السياق الكوني والأفق الظرفي، البعد الزمني في النص الديني، قضية الشريعة، العبادات، الفتاوى، مع أول ملاحظة هنا مفادها أن أغلب العناوين التي تطرق إليها أوبرو لا يتجاوز حجم الخوض فيها صفحة أو ثلاثة صفحات على أبعد تقدير، باستثناء خوضه في موضوع الفتاوى، حيث تجاوزت عدد صفحات الوقفة 11 صفحة.
أما الفصل الثاني، فكان مخصصاً للحديث عن ثنائية الإسلام والسياسة، من خلال محاور تطرقت لشمولية الدين بين الحقيقة والافتراء، خلافة النبي: التحول التاريخي، الحداثة المفقودة، دين أصبح إمبراطورية؛ وبالنسبة للفصل الثالث، فجاء تحت عنوان “الإسلام في الجمهورية: بين الإدماج والذوبان”، متضمناً بدوره عدة محاور حول الإسلام، الحرية والمساواة والشفافية، الإسلام والأنوار، العلمانية والجمهورية، الإجابة الإسلامية على الثنائية العلمانية، ولاء مسلمي فرنسا للجمهورية؛ وأخيراً، فصل رابع عبارة عن إجابات مركزة تحت عنوان يُحيل على “القواعد العشر”، تدور حول قراءة القرآن، تقليد النبي، عندما تصبح الثيولوجيا إيديولوجيا، السلفية بين الأمس واليوم، الإسلام الدعوي، الشريعة ليست ما نقوله عنها، العلمانية ليست ديناً، شفافية الممارسة الدينية، الإسلام ليس طائفياً، وأخيراً، تنظيم الشأن الإسلامي في فرنسا.
أول ملاحظة يخرج بها قراء الكتاب أن حديث طارق أوبرو عن الإسلاموية جاء بشكل عابر، وموزع على بضع فقرات، مع تركيز كبير على التيار السلفي، وبدرجة أقل جماعة “الدعوة والتبليغ”، مقابل الصمت عن الخوض في المشروع الإخواني، مع أنه أكثر حضوراً، حتى إن تقرير مجلس الشيوخ الفرنسي أعلاه، أشار في الصفحة 38 إلى أن “التيار السلفي أقل إثارة للقلاقل مقارنة مع الخطر الحقيقي، أي الخطر الفوري في فرنسا، والذي يمثله أكثر فأكثر أولئك الذين يقبلون على الانخراط بشكل من الأشكال في اللعبة السياسية، وهم الإخوان المسلمون”، وهذه قراءة غائبة كلياً في الكتاب الذي ألفه عضو سابق في المشروع الإخواني، والذي يعلم جيداً أن هذا الأخير أكثر انتشاراً وحضوراً لدى أوساط الجالية المسلمة مقارنة مع حضور باقي الإسلاميين.
جاءت تلك الإشارات العابرة في مقدمة الكتاب، من خلال حديث عن بداية الإسلاموية في فرنسا، ولكن في عموميات دون تفصيل أو تدقيق، بل اعتبر أوبرو أنه “لا داعي للفصل بين الإسلام والإسلاموية، لأنها ليست مسألة ملحة، إنها مسألة مصطنعة” (ص 5)، مضيفاً أن “الإسلاموية أو الإسلاميين، لا يمثلون انحرافاً للإسلام، لأنه علينا طرح السؤال الحقيقي: أي إسلام نقصد؟ هذا هو جوهر المشكل”. (ص 6)
تمييع الحديث عن الإسلاموية، أو عن الإسلاميين وصل في الكتاب إلى الاستشهاد بأن أول من تحدث عنهم، هو الإمام الأشعري، في “مقالة الإسلاميين”، والحال أنه شتان ما بين المقصود بكتاب أبي الحسن الأشعري في “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين” وما بين المقصود بالإسلاميين اليوم.
حظيت السلفية بنقد كبير في الكتاب، كما جاء في الصفحات التالية: 21 و25، 87، وأمام هذا النقد الصريح الذي كان من نصيب التيار، قوبل الإخوان بالصمت أو ما يُشبه التلميحات، مع غياب أي نقد ضدهم على غرار النقد الذي كان من نصيب التيار السلفي، وحتى الإشارة الصريحة التي جاءت في الصفحة 87 بخصوص معضلة التيار الذي يرفع شعار “الإسلام هو الحال”، فقد جاءت بشكل عام، دون أن يدقق في المقصود من التيار المعني، مع أن التيار الإخواني هو الذي يرفع هذا الشعار دون سواه، حتى إنه يوجد في أعلام الحركات والجماعات الإخوانية، بخلاف أعلام الحركات والجماعات القتالية أو الجهادية من قبيل تنظيم “القاعدة” أو تنظيم “داعش”، وبالرغم من ذلك، لم تكن هناك أي إشارة بخصوص التيار المعني، لأن إسم الإخوان المسلمين غائب بشكل كلي مقارنة مع الحضور الكبير لنقد السلفية.
في سياق وقفات أوبرو مع السلفية أيضاً، اعتبر أنه “بسبب تراجع تأثير السلفية في فرنسا، هناك مخاوف من عودة التديّن التقليدي المالكي والحنفي، مما يهدد الإسلام الفرنسي ومأسسة الهيئات الإسلامية” (ص 136)، والحال أن ما يُهدد مسلمي فرنسا في الشق الخاص بأنماط التديّن هو الإسلاموية تحديداً وليست المذاهب المعنية هنا، لأنها مذاهب غير معنية بأدبيات “الجاهلية” و”الحاكمية” و”التقية”.
مما يُثير الانتباه في التنصيف الذي اشتغل عليه تقرير مجلس الشيوخ الفرنسي، غياب أي إحالة على الطرق الصوفية، لأن المؤسسة التشريعية اعتبرت أن الطرق الصوفية لا تصنف في خانة الإسلامية، ولا تتسبب في قلاقل للمسلمين أو للمجتمع الفرنسي، مع أنها حاضرة في فرنسا، خطاباً وممارسة، إضافة إلى العديد من النخب الفرنسية المسلمة تنهل من تديّن صوفي، من قبيل شكيبة خياري (فاعلة سياسية)، إريك جوفروا (باحث) الشاب عبد المالك (فنان)، وأسماء أخرى، ومعلوم أيضاً أن أتباع التديّن الصوفي في فرنسا وفي الدول الأوروبية لا علاقة لهم بالأسباب المغذية أو المتسببة في ظاهرة “التخويف من الإسلام” أو “الإسلاموفوبيا”، ولكن كتاب طارق أوبرو لا يتضمن وقفات مع هذا التديّن، مع أنه يزعم المساهمة في الإجابة عن أسئلة تهم دائرة صناعة القرار والرأي العام الفرنسي بخصوص العلاقة غير السوية بين الجالية المسلمة والدولة الفرنسية، كما تؤكد ذلك أزمة المؤسسات الإسلامية.

زر الذهاب إلى الأعلى