الدين والحياةسلايدر

قراءات رمضانية..معضلة تكوين وتأهيل الأطر الإسلامية في أوربا: مساهمة مغربية في السياق

منتصر حمادة

كان الاشتغال على قضايا الأطر الإسلامية في أوربا متواضعاً منذ عقود مضت، بحكم تواضع الحضور الإسلامي، ولكن جرت تحولات مجتمعية، أهمها ارتفاع نسبة الجالية المسلمة وخاصة الجالية القادمة من المغرب العربي، وظهور عدة إشكاليات وتحديات مرتبطة بهذه التحولات الكمية والنوعية.
وبالنتيجة، أصبح الإسلام على نحو تدريجي جزءا مندمجاً في النسيج الثقافي والديني للمجتمعات الأوربية، بل يحظى بموقع متقدم من دين للمهاجرين إلى دين للمواطنين الأوربيين، كما يُشكل تميز مسار تجذير الإسلام في البلدان الأوربية المطبوعة بـ”علمانية ثقافية”، وبروز جيل جديد من المسلمين الأوربيين، محور نقاش حول مفاهيم القيم والأخلاق وأنماط نقل هذه القيم.
وبالموازاة مع مسألة تكوين الأطر الدينية، ينصب النقاش، بخصوص المقاربات التربوية المقترحة على مسلمي أوربا والأجيال الشابة، على التربية الدينية وتدريس الدين والثقافة الإسلامية وتاريخ الأديان.
في هذا السياق، يأتي صدور هذا الكتاب الجماعي، وهو في الأصل، تجميع لأشغال الندوة الدولية التي نظمها بمجلس أوربا في ستراسبورغ، صدر عن منشورات “ملتقى الطرق” ومجلس الجالية المغربية بالخارج حول “الإسلام في أوربا: تكوين الأطر والتربية الدينية وتدريس الدين”، بمشاركة 150 خبيراً في المجال الديني يمثلون بلداناً مختلفة، وفي مقدمتها المغرب، وهي الندوة التي استهدفت على الخصوص إثراء النقاش حول إشكالية التربية الدينية وتدريس الدين بما ينسجم وتكوين الأطر الدينية، حيث انكب المشاركون، وهم جامعيون وفاعلون ثقافيون وجمعويون، قدموا من فرنسا وبلجيكا وهولندا وبريطانيا العظمى وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا ولبنان، على بحث القضايا المتعلقة بتدريس الدين في المدارس العمومية الأوربية ومراكز تكوين الأطر الدينية المسلمة في الاتحاد الأوربي، وتجربة التكوين المستمر في العلوم الدينية، وكذا المضمون العلمي والبيداغوجي وما يتصل بتكوين الأطر المسلمة.
تضمنت الجلسة الافتتاحية أربعة مداخلات، وهي المداخلات نفسها التي توجد في مضامين الكلمات الافتتاحية التي جاءت في الكتاب (ص 11 ــ ص 29)، وكانت لغابرييلا باتيني دراغوني، المديرة العامة للتربية والثقافة والتراث، والشباب والرياضة لمجلس أوربا، منسقة الحوار بين الثقافات، والثانية لعبد الله بوصوف أمين عام مؤسسة مجلس الجالية المغربية بالخارج، أوليفيي بيتس مساعد عمدة استراسبورغ، وأخيراً، عبد الله رضوان، رئيس فريق العمل “الدين والتربية الدينية” بمؤسسة مجلس الجالية.
نأتي لمضامين القسم الأول من الكتاب، وعنوانه “الإسلام في أوربا: التربية الدينية وتدريس الظواهر الدينية.. التشريعات والتجارب والآفاق”، وقد تضمن وقفات مع تجارب خاصة بالحالات الإسبانية والبلجيكية والفرنسية والإيطالية، حيث تضمن المساهمات التالية: مجلس أوربا وتعليم الشأن الديني لأندريه شنايدر، نائب عن الراين السلفي؛ آراء عن التعاليم الديني في المدراس العمومية لمنطقة ألزاس ــ موزيل، وعن إمكانية شموله الدين الإسلامي لجون ماري فوغلينغ، رئيس معهد القانون الحلي بستراسبورغ، تعليم الدين في مدارس الدول الأوربية: حالة الإسلام، لألساندرو فيراري، أستاذ، جامعة إنسوبريا، إيطاليا؛ التجربة البلجيكية في مجال تدريس الإسلام لصلاح الشلاوي، مفتش بوزارة شؤون المجموعة الفرنسية في بلجيكا؛ تدريس الإسلام في إسبانيا لأليكس سيغلرس غوميس كنتيرو، أستاذ الجامعة المستقلة لبرشلونة، إسبانيا؛ تدريس الإسلام في أوربا: المملكة المتحدة نموذجاً لموریس عرفان کولز، رئيس الإسلام والتربية على المواطنة لندن، بريطانيا؛ التعليم الديني؛ تجربة المسجد الكبير بستراسبورغ لفؤاد دواي، رئيس الشركة المدنية العقارية للمسجد الكبير لستراسبورغ، فرنسا؛ مركز الدين الإسلامي بالجامعة الحرة لأمستردام: الدين الإسلامي في سياق غربي لهانك فروم، أستاذ الجامعة الحرة لأمستردام، هولندا؛ وأخيراً، تدريس الإسلام في إيطاليا: الواقع والآفاق لباولو برانكا، أستاذ الجامعة الكاثوليكية لميلان، إيطاليا.
بالنسبة للقسم الثاني، وجاء تحت عنوان: “الإسلام في أوربا: تكوين الأطر الدينية التشريعات والتجارب والآفاق”، فقد تضمن بدوره مجموعة مساهمات، انطلاقاً من خلاصات أو قراءات في تجارب خاصة بالحالات الإسبانية والبلجيكية والفرنسية والألمانية والهولندية، وجاءت عناوينها كالتالي: مراكز تكوين المرشدين الدينيين المسلمين في الاتحاد الأوربي لخوان فيريرو غالغيرا، أستاذ القانون في جامعة كورونيا، نائب المدير العام للعلاقات مع الأديان بوزارة العدل الإسبانية؛ تكوين الأطر الدينية الإسلامية في فرنسا: تحديات وآفاق لمحمد الموساوي، رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، فرنسا؛ التكوين الأكاديمي للأئمة: المبادرات والنقاشات الأخيرة في الأراضي المنخفضة لمحمد غالي، أستاذ مساعد، جامعة لايدن، هولندا؛ تكوين الأطر الدينية المسلمة: التجربة الإسبانية لآنا بلانیت، أستاذة الجامعة المستقلة لمدريد، إسبانيا؛ من تدريس الإسلام إلى تكوين الأئمة: التجربة الألمانية لعبد الصالح الحمروني، مكلف بالدروس، جامعة منستر، دوسلدورف، ألمانيا؛ تكوين الأطر الدينية المسلمة في الإطار الجمهوري اللائكي لبرنار غودار، مستشار لدى المكتب المركزي للديانات، وزارة الداخلية، فرنسا؛ الأئمة في فرنسا أو أئمة فرنسا: الانتظارات من التكوين والواقع الميداني لسميم أكغونول، مكلف بالتدريس وباحث مشارك، جامعة ستراسبورغ، فرنسا؛ إعداد الأطر الدينية، أي مناهج للقرن الحادي والعشرين؟ لحسام سباط، أستاذ، جامعة الجنان، طرابلس، لبنان؛ ملامح وآفاق تكوين الأطر الدينية المسلمة في أوربا لفريد العسري، مساعد البحث، الجامعة الكاثوليكية للوفان، بلجيكا؛ دراسة القرآن في الجامعة لرشید بن زین، مكلف بالدروس، معهد الدراسات السياسية بإيكس أون بروفانس؛ تكوين الأطر الدينية المسلمة: آفاق التجربة المغربية لخالد الصمدي رئیس المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية، تطوان.
وتضمن الكتاب محوراً أخيراً، جاءت عناوين مواده موزعة على ثلاث مداخلات: الأولى لغابرييلا باتيني دراغوني سالفة الذكر، والثانية، لأحمد الخمليشي، مدير مؤسسة دار الحديث الحسنية، والثالثة لإدريس الأزمي، رئيس مؤسسة مجلس الجالية المغربية بالخارج.
يرى عبد الله بوصوف أن المطلوب منا في أوربا هو أن نعيش بعقليات فقهاء الإسلام الذين كانوا منسجمين مع عصرهم وبيئتهم، لأن العيش بعقلية متفتحة كان يدفعهم إلى البحث بشكل دائم عن إجابات على القضايا التي كانت تطرح على المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه. ومعنى ذلك أنه يجب علينا أن نعيش بتلك العقلية، لكن مع استحضارنا معطيات حاضرنا وواقعنا وعصرنا، لنكون قادرين على ابتكار الأجوبة وعلى التوصل إلى التوافق مع هذا الواقع، مضيفاً أنه من الممكن، إذا أتيحت الفرصة للمسلمين في أوربا، أن يتمكنوا يوماً من المساهمة في تحقيق التعايش السلمي العالمي، فنحن نعيش في عصر صراعات ومواجهات، ليس فقط بين المسلمين في أوربا والمجتمعات التي يعيشون فيها، وإنما أيضاً بين الإسلام والعالم الإسلامي من جهة، ومن جهة أخرى بين من يطلق عليهم في الأدبيات الإسلامية اسم الغرب (من قبيل ما نعاينه منذ أشهر مع الحرب الروسية الأوكرانية، ضمن أمثلة أخرى).
أما إدريس اليازمي، فيرى أن مسلسل تجذر السكان المسلمين (يقصد الجالية المسلمة في أوربا) هو واقع تاريخي حتمي يجعل من الإسلام بالتدريج شأناً أوربياً، ويضع هذا التجذر أولئك السكان والسلطات العمومية وجميع الفاعلين (الأحزاب والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام..) أمام عدد من التحديات غير المسبوقة تاريخياً، مضيفاً أن الجاليات المسلمة، وخاصة الأجيال الأولى منها، واجهة عدة إشكالات، منها ضرورة أخذ التعددية السياسية والدينية والثقافية للمجتمعات الأوربية بعين الاعتبار، إضافة إلى تراث تلك المجتمعات وتقاليدها المطبوعة باللائكية (اللائكية هنا إحالة على النموذج الفرنسي في العلمانية، لأن هناك عدة نماذج). وعلاوة على هذا التنوع الخاص بالمجتمعات الأوربية، يضيف اليازمي، يجب على المسلمين أن يأخذوا بعين الاعتبار في نفس الوقت تعدديتهم الخاصة بهم، وكذا وضعهم الاجتماعي والسياسي الذي يتميز بالهيمنة. كما أنهم يواجهون أخيراً، بفعل حياة المهاجر نفسها، تساؤلات دينية غير مسبوقة.
ملاحظة أخرى هامة تهم إشارات أو رسائل موجهة إلى المسؤولين الأوربيين جاءت في مساهمة اليازمي، مفادها أنه بالنسبة للسلطات العمومية والفاعلين الأوربيين الآخرين، يتمثل التحدي في التفكير في تدبير ديمقراطي لتنوع متزايد في مجتمعاتهم، من خلال ضمان مساواة في المعاملة بين الديانات لتاريخية الراسخة والشعائر الدينية الجديدة، لكن مع رفع تحد آخر، ذي طبيعة سياسية بامتياز، يتمثل في محاربة التمييز، وتعزيز الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للسكان المسلمين الذين أصبحوا أوربيين على نحو كامل، على الأقل من الناحية الشكلية. وفي الوقت نفسه، تواجه الدول الأوربية الواعية، بدرجات متفاوتة، بهذه التحديات الجديدة إكراهاً ثلاثياً: الضغط الأمني، وتجلي الإسلام المثير للجدل الذي تلعب فيه وسائل الإعلام دوراً هاماً، والتوظيف الحزبي للشأن الإسلامي الذي أصبح لازمة متواترة في الاستحقاقات الانتخابية.
نترك مسك الختام لأحمد الخمليشي، والذي انطلق من خلال ملاحظة أثارت انتباهه على هامش متابعة العديد من المداخلات التي ميزت أشغال هذه الندوة الدولية، وجاءت بصيغة استفسارية صريحة: لماذا يثار كل هذا الجدل والنقاش حول الإمام؟ [يقصد الإمام المسلم في الديار الأوربية]، ورداً بعض عناصر الإجابة، من قبيل ما صدر عن خوان فيريرو غالغيرا، أستاذ القانون في جامعة كورونيا، نائب المدير العام للعلاقات مع الأديان بوزارة العدل، إسبانيا، والذي يرى أن هناك بقية من الثقافة الموروثة تجاه الآخر، إلا أن هذا التفسير من منظور الخمليشي كان جزئياً، معتبراً بدوره أن هناك عاملاً آخر وهو المتعلق بمجالات تدخل الإمام، فلو كان الإمام يتدخل شؤون العبادة وحتى في قضايا العقائد، لهان الأمر، لكن الذي يجلب هذه المشاكل من وجهة نظره، هو تدخله في الحياة المدنية، لأن هذا التدخل في الحياة المدنية يصطدم مع القانون المطبق في السياق الأوربي، أي القانون الموروث المتعلق بالحياة المدنية، بل نجد تبعات هذا الاصطدام بصورة خاصة في مجالي حقوق الإنسان ووضعية المرأة وحتى في الحياة المدنية الأخرى. والسبب، يضيف الخمليشي، هو أن ما لدينا في هذا المجال يرجع إلى قرون قديمة جداً، أكثر من عشرة قرون، ولم يتم تحيينه، مع أن حياة الناس تتقدم، والمفاهيم تتغير، والقيم لا تبقى على سنة واحدة، مستشهداً ببعض الإشارات التراثية النافعة، كالتذكير بأن بعض علمائنا أعطوا إشارات في معرض التعامل مع فلسفة هذه القضايا، دون أن ننتبه إليها اليوم، وأحال مثلاً على إشارة لابن الجوزي، من علماء القرن السادس الهجري أي القرن الثاني عشر الميلادي، جاء فيها: “إن في التقليد إبطالاً للعقل لأنه إنما خُلِق للتدبر والتأمل، وعار على من أعطي شمعة يستضيء بها يطفئها ويمشي في الظلام”.
يتحسر الخمليشي كثيراً على عدم النهل من هذه الفتوحات، قائلاً: لم نأخذ هذا المبدأ ولم نطبقه، معتبراً من باب الإنصاف وعدك اختزال أسباب هذه القضايا في محدد واحد، أنه لا يمكن أن تلقي المسؤولية على طائفة دون طائفة، المسؤولية تقع علينا جميعاً.

زر الذهاب إلى الأعلى