قراءات رمضانية.. الباحث والدبلوماسي المغربي عبد القادر الجموسي قارئاً مسار الفيلسوف سبينوزا
منتصر حمادة
ضيف هذا الكتاب عمل بحثي لفلم مغربي متعدد المجالات الإبداعية، فإضافة إلى كونه قنصل المملكة في أمريكا، وبالتحديد في نيويورك، فإنه أحد المبدعين في شعر الهايكو، ومترجم أيضاً، حتى إنه ترجم كتاب “الأمير” الشهير لماكيافيلي ضمن ترجمات أخرى، وباحث رصين كذلك، كما يشهد على ذلك العمل الذي نتوقف عنده في هذا العرض، والحديث عن كتاب “حياة سبينوزا.. من الطائفة إلى الدولة”، والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (ط 1، 2021).
وباروخ سبينوزا (1632 ـــ 1677) كما هو معلوم، ولد في مدينة أمستردام الهولندية، من عائلة برتغالية من أصل يهودي، تنتمي إلى طائفة المارنيين. كان والداه يهوديين هاجرا من البرتغال، وفي البداية اضطرا لاعتناق المسيحية. وبعدما وجدا مناخاً متسامحاً في هولندا، عادا إلى اليهودية. كان والده تاجراً ناجحاً في أمستردام، ولكنه متزمت ومتعصّب للدين اليهودي. وبالإضافة إلى تجارته، تولى العديد من المناصب الدينية في المجتمع اليهودي هناك، بل شغل العديد من المهام التدريسية المنصبّة على تعاليم التلمود.
يرى عبد القادر الجموسي أن فلسفة سبينوزا عبارة عن مشروع معرفي يسعى إلى تقديم قراءة شاملة للوجود، أو قل قراءة تنطلق من إيمان راسخ بقدرة العقل الإنساني على فهم نظام الطبيعة الشامل، مضيفاً أن هذا الطموح المعرفي العقلاني أثار حول سبينوزا، جدلاً واسعاً دفع بالعديد من قرّائه إلى اتهامه بتعليم الإلحاد، فيما اعتبره آخرون، فيلسوفاً مُنتشياً بحبّ الله، ومن هنا صدور هذا العمل التعريفي الذي عمد فيه المؤلف إلى تحرّي أسلوب جديد في رصد مسار حياة الفيلسوف، أسلوب مقارن وهادئ يحاول أحد مسافة على قدر المستطاع من مُجمل الصيغ الإنشائية المتحمّسة، التي قد تمجّد الشخص أو تسعى إلى التشهير به، كما هو سائد في العديد من الأعمال هنا وهناك في الساحة، محلياً وإقليمياً على الخصوص.
وبالنتيجة، نحن إزاء عمل يدافع فيه المؤلف عن فيلسوف تميزت أعماله، يضيف الجموسي، بسمة العمق والتعقيد، ومن ذلك رؤيته إلى العالم التي لا تزال تثير الأسئلة وتعدد التأويلات. وهي السمة نفسها التي دفعت بأقرب أصدقائه ومحاوريه أثناء حياته، إلى التعبير عن دقة موضوعاته، فكانوا يلحّون عليه لتقديم المزيد من الإيضاحات، لتسليط الضوء على آرائه ونظرياته الفلسفية المستجدة.
ومن الأسباب التي جعلت أعمال هذا الفيلسوف تتسم بالغموض وتستعصي على الفهم تعود إلى اعتبارات عدة، يورد المؤلف أربعة أسباب على الأقل: اختياره المنهج الهندسي لعرض أفكاره ومعالجة إشكالاته الفلسفية؛ انطلاق قرائه من أحكام عقائدية وأيديولوجية مسبقة تعوق إدراكهم لأفكاره في سياقها وأفقها المعرفي الجديد؛ اقتصار معاصرية على نصوص محددة، مما جعل قراءتهم تكون مجزأة ولا تلم بمبادئ ومقاصدها فلسفته في نسقها وشموليتها؛ وأخيراً، اختلاف السياقات التي ارتبطت بها فلسفته من سياق ديني وديكارتي وسياسي.
بخصوص الشق الذاتي الذي يقف وراء اشتغال الباحث على أعمال أحد منظري مفهوم التسامح، نقرأ في مقدمة الكتاب ما يلي: “ابتدأت فكرة الكتابة عن سبينوزا منذ سنوات إقامتي في مدينة لاهاي (1995-2001)، حيث اكتشفت هذا الفيلسوف الهولندي الكبير، الذي حوّل مسار الفكر الفلسفي الإنساني برمته، ما جعل فيلسوفاً مثل هيغل يقول عنه إما أن يكون المرء سبينوزياً أو لا يكون فيلسوفاً على الإطلاق. وما ساعدني على الاقتراب من عالم الفلسفة السبينوزية، هو انخراطي في خزانة مدينة ليدن العريقة، التي مكّنتني من الاطلاع على ذخائر من المخطوطات والمراجع من مختلف اللغات. وكنت في كل مرحلة من مراحل اكتشافي لعالم سبينوزا أزداد دهشة وفضولاً لبذل المزيد من الجهد لفهم مقاصده، التي لم تكن تخلو من تعقيد ودقة اعترف بهما حتى المتخصّصون في فلسفته. وتدريجاً، وجدتني أقرأ أعماله الكاملة ورسائله وسير حياته المتاحة، متمحّصاً ومدقّقاً ومقارناً. وكم كانت دهشتي أكبر وأنا أكتشف المفارقات الكبرى والمواقف المتضاربة التي أثارتها حياة هذه الفيلسوف وأفكاره، ما جعله أقرب إلى الأسطورة. ولم أجد بدّاً من التخلي عن فصول كاملة ألفتها عن فلسفته، والتركيز على سيرة حياته في محاولة مني لتقديم، لربما بشكل غير مسبوق في العربية، صورة حية للفيلسوف أتابع فيها أطوار مساره الفكري والفلسفي، في علاقته المتوترة والمتشعّبة مع سيرة حياته الشخصية والعائلية، ومدى تفاعله مع تيار عصره، وتجاذبات المحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي لبلده هولندا على وجه الخصوص، وأوروبا بوجه عام. ووفقاً لهذا الاختيار، دأبنا على رسم، بأكبر دقة ممكنة، أهم المحطات التي أثّرت في اختيارات الفيلسوف ومواقفه من حياة الطائفة التي احتضنته فانشقّ عنها، ومن سياسة بلده ومنظومتها الفكرية، التي أسهم في تطويرها، من خلال التنظير الفلسفي والانخراط في حركات المجتمع المدني الطلائعي”.
من باب التذكير فقط، وفي الشق الخاص بنشر وترويج أعمال سبينوزا في المنطقة، ثمة محطة مفصلية عنوانها ترجمة “رسالة في اللاهوت والسياسة” تلك التي قام به المفكر المصري الراحل حسن حنفي، حيث وضعه في سياقه التاريخي/ الديني، منبهاً القارئ إلى أهداف الترجمة حينها، ولخصها في نقاط ثلاث: تأكيد صدق تحليلاته ودفع أفكاره إلى أقصى حدودها واستخلاص أبعد نتائجها، والكشف عما تركه غامضاً نظراً لظروف العصر، خاصة أن الشائع عن سبينوزا أنه فيلسوف مُقنَّع يقول نصف الحقيقة ويترك النصف الآخر لذكاء القارئ أو لحركة التطور الفكري؛ إخراج سبينوزا من سياقه الخاص وإلحاقه بالتراث الفلسفي في القرن السابع عشر؛ وأخيراً، إسقاط التراث اليهودي على التراث الإسلامي، مع تبني المنهج النقدي نفسه، وهو العمل أو الخيار الذي كان وراء صدور قراءات نقدية في أعمال ومشروع حسن حنفي.
ما كان عبد القادر الجموسي يتوقف عند سيرة سبينوزا دون التوقف ملياً عند أسباب وتداعيات هذا العمل المرجعي لسبينوزا، والذي يحمل عنوان “رسالة في اللاهوت والسياسة”، حيث اعتبر أن العمل ليس إلغاءً للدين جملةً وتفصيلاً [هذا محال أساساً، بخلاف التديّن الذي يمكن محوه، بينما الأمر مختلف مع الدين]، كما يروج لذلك خصومه اللاهوتيون، وإنما غايته تتمثل في تمييز الدين عن الخرافة وتنوير العقول، لذلك دأب الفيلسوف على تحليل الخطاب الديني وتمييز المقدس فيه عما هو دنيوي، كما أرجع سلطة تفسير الكتاب إلى كل فرد، في مسعى لسد الطريق على مؤسسة الكهنوت في احتكارها لسلطة تأويل النصوص، مستشهداً بإشارة سبينوزية جاء فيها: “لما كانت السلطة العليا في تفسير الكتاب ترجع إلى كل فرد، فلا ينبغي أن تكون هناك أية قاعدة أخرى للتفسير سوى النور الطبيعي المشترك بين جميع الناس، فلا يوجد نور يفوق الطبيعة ولا توجد سلطة خارجية. فمن الواجب إذن ألا يكون هذا المنهج من الصعوبة بحيث لا يمكن أن يتبعه إلا الفلاسفة ذوو البصيرة النافذة. بل يجب أن يكون في متناول الذهن العادي المشترك بين جميع الناس، ومتناسبا مع قدرتهم. وقد بينا أن منهجنا كذلك. وقد تبين لنا بالفعل أن الصعوبات التي نجدها فيه ترجع إلى إهمال الناس لا إلى طبيعة هذا المنهج”.
نأتي للفصل الذي تضمن وقفة مع أجواء رحيل سبينوزا، وعلى غرار مصير العديد من العلماء والفلاسفة والحكماء، من منظور مادي صرف، لم يترك الرجل شيئاً، ما تلخص ذلك شهادة صادرة عن كاتب سيرته کولیروس: “يكفي أن تلقي نظرة على قائمة محتويات متاعه الأخير التعرف أنها تعود لفيلسوف حقيقي، كتب وبضع منحوتات صغيرة وقطع زجاج مصقول، وآلات خاصة بصقل العدسات”.
قضى سبينوزا أيامه الأخيرة طريح فراش المرض في منزل عائلة الرسام فان دیر سبيك وتحت رعاية زوجة هذا الأخير. ويرجح العديد من الباحثين أن يكون سبب مرضه، الذي دام أكثر من عشرين سنة، هو استنشاقه المستمر لغبار زجاج العدسات التي كان يشتغل على صقلها، فيما يذكر صديقه شولر في رسالة إلى ليبنز أنه قلق على صحة سبينوزا التي باتت تسوء بشكل كبير ومتسارع بسبب مرض السل الرئوي الذي ألم به، وهو مرض وراثي في عائلته، على حد قوله.
كان يوم أحد توجه فيه أفراد عائلة فان دير سبيك إلى الكنيسة تارکین صديقهم الفيلسوف بغرفته المتواضعة صحبة صديق له جاء بطلب من الفيلسوف. قد يكون هذا الصديق هو الطبيب لويس ماير أو شولر نفسه، حسب مختلف الروايات. وعلى الساعة الثالثة من نفس اليوم (21 فبراير 1677) تلقى فان دير سبيك باندهاش نبأ موت الفيلسوف. لم يوصي الفيلسوف بأي شيء اللهم إلا أن يرسل مكتبه الخاص، في حال موته، إلى صديقه الناشر، ومن ضمن محتوياته المخطوط النهائي لكتاب العمر “الأخلاق” وكذا العديد من رسائل الفيلسوف ومخطوطات مؤلفاته الغير المكتملة.
لم يلبث الفيلسوف أن سافر في نفس الليلة، على متن أول مرکب يقله إلى أمستردام، حاملاً معه بعض أعمال صديقه المتوفي. وبعد أيام قليلة أرسل فان دير سبيك المكتب إلى الناشر، ثم أشرف على مراسيم الدفن بالكنيسة الجديدة بلاهاي في 25 فبراير من نفس السنة بحضور شخصيات بارزة من رجال العلم والسياسة. ولأداء مصاريف الدفن وضع متاع الفيلسوف في المزاد العلني بعد أن تم جرد وتسجيل محتويات مكتبته التي تضمنت عشرات من الكتب بمختلف اللغات الاسبانية واللاتينية والهولندية والعبرية، لشعراء وفلاسفة وعلماء تركوا بصماتهم على الحياة العقلية والروحية لعصرهم، ذكر منهم المؤلف على سبيل المثال لا الحصر، أستاذه مناسی بن اسرائيل والفيلسوف الأندلسي موسى الميموني وروني ديكارت وهوغو غروتيوس، وتوماس هوبز وفرانسیس بيكون وروبرت بويل من الانجليز، وثلة من الفلاسفة الإنسانيين من طينة بتراركه الإيطالي وتوماس مور ونيكولو ماكيافيلي.
وباستثناء المكتبة وبضعة مخطوطات ورسوم شخصية وعدسات وآليات بصرية، لم يخلف سبينوزا ثروة يمكن أن يطمع فيها الوارثون، كما طمعت في ذلك أخته ريبيكا دي سبينوزا، التي ظهرت على مسرح الأحداث من جديد وقدمت نفسها، بعد جفاء عمر طويل، بصفتها الوريث الوحيد للفيلسوف، ومباشرة بعد وفاته، في العام نفسه الذي توفي فيه، سيقوم أصدقاؤه بجمع ونشر أعماله بتمويل من شخص مجهول، وذلك تحت عنوان “الأعمال المخلفة” مكتفين بوضع الأحرف الأولى البارزة من اسمه، بندكتوس دي سبينوزا على الغلاف دون أدنى إشارة إلى اسم الناشر أو مكان النشر.
وبعد أقل من سنة واحدة على نشر هذه الأعمال الكاملة، وتحديداً في 25 من يونيو 1678، ستصدر السلطات الهولندية مرسوماً يقضي بحظر بيع وشراء ونشر وترجمة الكتاب بدعوى أنه منافي لمبادئ الدين، إلا أن التاريخ أنصفه برأي المؤلف، ومن مؤشرات ذلك، أنه يُصنف اليوم ضمن أحد أكبر الفلاسفة العقلانيين الذين أنجبتهم الإنسانية خلال القرون الأربعة الأخيرة للارتقاء بالذهن الإنساني إلى درجة غير مسبوقة وللانتصار للذكاء الإنسان في مسعاه المصمم للكشف عن حقيقة الوجود وتحقيق السعادة والخير على أساس “الحب العقلي لله” أو اتحاد العقل بالطبيعة الشاملة.
ننهي هذا العرض الأولي في هذا العمل بإشارة لعبد الجموسي بخصوص العمل نفسه، مفادها أنه بالرغم من تحري سبينوزا طريقة عرض واضحة ومتميزة، فإنه ظل وفياً لرؤيته الفلسفية ومنهجه العقلاني التاريخي في قراءة النصوص المقدسة بما لا يخالف أو يتناقض مع أفكاره في الطبيعة وما بعد الطبيعة التي تشكل فلسفته الأخلاقية. لذلك لا يقدم الفيلسوف، من خلال هذا الكتاب، أي تنازل فلسفي لصالح اللاهوتيين أو لفائدة العامة رغم أنه جعلهم جزء من محاوريه الأساسيين. بل تجده راهن على ذهن متحرر من الأحكام المسبقة وقادر على تلقي أفكاره وخلاصاته بعقل نقدي متفتح هدفه الوحيد بلوغ الحقيقة. بل إن سبينوزا أخذ على عاتقه الدفاع عن حرية التفكير والتعبير.