الدار/ افتتاحية
لقد أظهر الإنجاز التاريخي الذي حقّقه أسود الأطلس في كأس العالم بقطر أن المغرب يمكنه أن يطمئن إلى مستقبل كرة القدم بفضل هذه الثروة الوطنية التي يمثّلها مغاربة العالم، وخصوصا أفراد الجالية المغربية المقيمة في الديار الأوربية. لقد شكّل هؤلاء اللاعبون المغتربون إلى جانب خريجي أكاديمية محمد السادس لكرة القدم عصَب المنتخب الوطني الذي أبهر العالم وشرّف الكرة العربية والإفريقية واستطاع أن يصل إلى دور نصف النهائي ويرفع سقف طموحات القارة السمراء في الدورات المقبلة لكأس العالم لكرة القدم. من حقّنا كمغاربة اليوم أن نعتز بقوة الانتماء التي تجتاح وجداننا الجماعي وتجعل من كل مغربي في أي بقعة على هذه الأرض جنديا مجنّدا من أجل الدفاع عن الراية الوطنية.
لقد حاولت بعض وسائل الإعلام الأوربية، الألمانية والإسبانية على الخصوص، أن تقلّل من قيمة الإنجاز الذي حقّقه المنتخب بالتركيز على الجنسيات المزدوجة التي يحملها اللاعبون المغاربة، الذين ازداد عدد كبير منهم في الديار الأوربية، في فرنسا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا، لكن هذه المقاربات الصحفية المتحيّزة التي تقطر حسدا وغيرة، تناست أن الانتماء إلى الكيان المغربي هو ارتباط وجداني ونفسي بالأساس. أينما ولد هذا المواطن الذي يتحدر من أب وأم مغربيين، أو من أحدهما، فإنه يبقى لصيقا بهذا الانتماء الأصلي للمملكة المغربية الشريفة، تجري في دمائه ذكريات تاريخها ومقومات تقاليدها وثقافتها.
لقد ازداد لاعب نادي تشيلسي الإنجليزي حكيم زياش في الديار الهولندية، وعندما تألق رفقة فريق أجاكس أمستردام الهولندي بدأ الإعلام الهولندي والمسؤولون عن كرة القدم في هذا البلد يحاولون بكل الطرق الضغط عليه لإقناعه بحمل القميص البرتقالي، لكنه كان يرفض هذا العرض باستمرار، ولعلّ التعليل الذي قدّمه حكيم زياش، هذا اللاعب الحساس، لاختياره اللعب للمغرب هو الذي يفسر إقبال مغاربة العالم وأوربا على حمل القميص الوطني بكل افتخار وعزة، لقد أجاب عن سؤال أحد الصحافيين بالقول: “لقد سألت قلبي، واخترت اللعب للمغرب”. هناك ملايين من المغاربة المتناثرين هنا وهناك في القارات الخمس يحملون قلوبا من طينة القلب الذي يحمله حكيم زياش.
قلوب مغاربة العالم هذه هي التي تدفع الملايين سنويا إلى العودة للديار المغربية في كل صيف في هجرة عكسية لا يشهدها أي بلد آخر في العالم. هذه القلوب هي التي تجعل من مغاربة العالم رافدا من روافد الاقتصاد الوطني باحتلالهم مراتب متقدمة باستمرار على مستوى مصادر العملة الصعبة بالنسبة للاقتصاد الوطني، ويحطّمون كل عام أرقاما قياسية على مستوى التحويلات المالية. قلوب هؤلاء المغاربة المطرّزة بحب الوطن وعشق الأرض المغربية هي التي تضع المغرب اليوم في مكانة عالمية وبسمعة متألقة في مجالات الفن والرياضة والثقافة بفضل مشاركات العديد من أبناء الجالية في بلدان إقامتهم في تشريف المغرب.
جاد المالح وريدوان والمهندس بوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” كمال الودغيري وغيرهم الكثير من النجوم المتألقة في سماء العلم والفن والإبداع يمثلون اليوم واجهة حقيقية لتسويق صورة المغرب المنتج والمبدع، المغرب الحداثي والمواكب لكل التطورات في شتى الميادين. إن أي بلد يمتلك “دياسبورا” بهذا الغنى وهذا الولاء المنقطع النظير للوطن لا يمكن إلا أن يحقّق إنجازات عالمية تضعه باستمرار في مصاف الأمم المتميزة. كم كان لمغاربة العالم دور حاسم في ملئ مدرجات الملاعب التي تنافس فيها أسود الأطلس وتقديم صورة مميزّة عن الجمهور المغربي الذي أبدع في الملاعب القطرية وخلّف صدى طيبا عن مستوى العشق الكروي الذي يسري في دماء المغاربة.
إذا كانت بعض الشعوب تفتخر وتعتز بما تمتلكه من ثروات النفط والغاز الطبيعي وغيرها فإننا كمغاربة في الداخل نفتخر أيّما افتخار بأخواتنا وإخواننا من مغاربة العالم الذين كانوا باستمرار في الموعد لرفع الراية الوطنية والدفاع عن سمعة البلاد وتسويق الثقافة المغربية في كل أرجاء العالم. لذلك فإن استمرار هذه الدينامية التي تعبئ القدرات والكفاءات اللامعة في أوساط الجالية المغربية المقيمة بالخارج وتدخلها في حالة انسجام وتناغم مع الكفاءات المحلية المقيمة بالداخل سيمثل نقطة قوة لبلادنا لمواجهة كل التحديات ورفع كل الرهانات المستقبلية، ليس فقط في المجال الرياضي وفي مجال كرة القدم، ولكن أيضا في كل الميادين الاقتصادية والثقافية والسياسية وغيرها.