الدار/ افتتاحية
الدينامية الدبلوماسية الدولية والإقليمية الذي حوّلت بوصلتها نحو المغرب في الأشهر القليلة الماضية تثبت أن المبادرات الكبرى التي راهنت عليها الرؤية الملكية تنطوي على الكثير من الاختيارات الاستراتيجية ليس للمغرب فحسب، بل لشركائه وحلفائه من الآفاق كلّها. نحن نشهد منذ نحو 7 سنوات ما يمكن أن نسميه الثورة الدبلوماسية الإفريقية الثانية. بدأت معالمها تظهر عندما عادت بلادنا إلى مقعدها في الاتحاد الإفريقي. قد يدفعنا ذلك إلى التساؤل: وما الثورة الأولى؟ إنها تلك التي أطلقها الملك محمد السادس منذ تربّعه على العرش في صيف 1999 عندما آمن إيمانا راسخا بأن مستقبل المغرب يكمن في عمقه الإفريقي، لا سيّما بعد أن أشاح الجوار الأوربي والمغاربي بوجهه في بداية الألفية الثالثة عن تطلّعات المغرب وطموحاته نحو التكامل الاقتصادي والتجاري المفضي إلى بناء أسس الرخاء والنماء.
نذكر جميعاً كيف بلغت العلاقات المغربية الإسبانية في سنة 2002 قمة التّوتر مع أزمة جزيرة ليلى، ونذكر أيضا كيف خيبّت مواقف النظام الجزائري الآمال في إمكانية إحياء اتحاد المغرب العربي القوي الذي ينعم بالأمن والرفاهية. كان النُزوع الإفريقي لجلالة الملك محمد السادس متجذرا في ثقافته السياسية والدبلوماسية الموروثة، لكنّه استطاع أن يعطيه زخَما مختلفا من خلال استراتيجية واضحة كان عنوانها الرئيسي: إفريقيا للأفارقة. ولعلّ العملة الدبلوماسية التي عبّدت الطريق نحو تجسير الروابط من جديد مع القارة السمراء هي التنمية الاقتصادية والتبادل التجاري. لم يفهم الجيران الأقربون للأسف هذه اللغة، ولو فهموها قبل عشرين عاما عندما ظهرت وعود الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة لكانت أوضاع المنطقة اليوم مختلفة تماما.
لو استوعب النظام الجزائري أن مساعي التكامل الاقتصادي التي عبّر عنها المغرب هي درع أمان للمنطقة بأكملها، لربّما تجنّبت دول شمال إفريقيا والعالم العربي أزمة الربيع العربي وتداعياتها الكارثية المعروفة. لكن لا يمتلك جميع القادة والزعماء والرؤساء بُعد النظر نفسه الذي يخوّل لهم استشراف المستقبل. عندما كان المغرب يفتح نوافذه مُشْرَعةً بسخاء على الكثير من الدول الإفريقية كان البعض يتهكّم ويعتبر الأمر مغامرة لا طائل من ورائها. عندما قرّرت بلادنا انسجاما مع التزاماتها الحقوقية الدولية أن تمكّن المهاجرين الأفارقة في المغرب من ظروف الإقامة الشرعية وإنهاء موجات قوارب الموت التي التهمت مئات الآلاف من شباب إفريقيا، لم يتردّد بعض المتشائمين في إعلان تخوّفهم من هذه القرارات وانعكاساتها المحتملة على الأوضاع الاجتماعية في بلادنا.
لم يستوعبوا جيدا أن الرؤية التي بلورها جلالة الملك تعبّر عن احتياجات المغرب وإفريقيا معا. الاحتياجات المتكاملة التي تشمل الأبعاد الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والإنسانية. الفهم الصحيح لهذه الرؤية يتطلّب العودة باستمرار إلى مبدأ الاستشراف والتطلّع الذي حكم الكثير من المشاريع والمبادرات الملكية. إنها فلسفة مستقلة قائمة بذاتها تؤمن أن نهضة الشعوب والأمم حقّ ويجب ألّا تظل موضوع مزايدات سياسية وتوظيف دبلوماسي بخلفية استعمارية أكل عليها الدهر وشرب. ومنافسةُ المغربِ اليومَ عدّة قوى دولية، لا سيّما من الدول الأوربية، في كسب رهانات التعاون والتنمية المشتركة في إفريقيا أكبر مثال يجسد اختلاف الرؤية الملكية وتميّزها.
يشهد اليوم خبراء فرنسا وإسبانيا وألمانيا وغيرها من القوى الأوربية أن المغرب أضحى رقما صعبا في المنطقة، وأن دخول الأسواق الإفريقية دون تعاون معه لم يعد ممكنا. واليوم نشهد المشاريع العملية التي تجسّد هذه الثورة الدبلوماسية الثانية في إفريقيا. 3 مشاريع رائدة وسابقة لعصرها ستغير تماما وجه إفريقيا، وستؤكّد أن طوق النجاة الوحيد الذي بقي للأفارقة هو هذا التعاون الإقليمي الذي يرفع سقف الطموحات ويتحدّى التحديات. مبادرة البلدان الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي، ومبادرة تعزيز ولوج بلدان الساحل إلى المحيط الأطلسي، ومبادرة إنشاء أنبوب الغاز الإفريقي الأطلسي نيجيريا – المغرب. هذه المبادرات وحدها تفسر أبعاد فلسفة الرؤية الملكية للعلاقات الخارجية. هذا المثلث الجغرافي واللوجستي والطاقي يستجيب لمقوّمات النمو والتطور التي حُرمت منها القارة السمراء على مدار عقود منذ استقلالها. تمتلك الدول الإفريقية المعنية بهذه المبادرات الثلاث كل ما تحتاج إليه خطط النهضة الكبرى التي عرفها التاريخ في تجارب أوربا الغربية أو اليابان على سبيل المثال.
ثروة بشرية هائلة تناهز 500 مليون نسمة وموارد طاقية ومعدنية نفيسة تشكّل مستقبل الصناعات العالمية، وسواحل ممتدة لآلاف الكيلومترات وتنوع جغرافي يربط بين أدغال إفريقيا وصحاريها المترامية الأطراف. والأهم من هذا وذاك اقتصاديات واعدة بِنِسب نموٍّ من رقمين. خروج هذه المشاريع إلى حيّز الوجود أمر حتمي سواء على المدى المتوسط أو البعيد. وطريق تزنيت – الداخلة الذي شارف على الانتهاء سيصل لا محالة إلى لاغوس ليربط بين الأشقاء والأصدقاء القادرين بما يمتلكون من مؤهلات ذاتية على إبهار العالم، بشرط أن يؤمنوا بما بشّرت به هذه الرؤية الملكية قبل نحو ربع قرن.