أخبار الدارسلايدر

إصلاح المدونة يقترب من نهايته في ظل أجواء التوازن بين الهوية والتحديث

الدار/ تحليل

إحالة جلالة الملك محمد السادس مقترحات هيئة مراجعة مدونة الأسرة على أنظار المجلس العلمي الأعلى ينسجم مع التوجه الإصلاحي الذي رسمه جلالته، عندما أعلن في مناسبتين سابقتين أن أيّ مراجعة لهذا القانون ستتم في إطار “فضائل الاعتدال والاجتهاد المنفتح البناء، وفي ظل الضابط الذي طالما عبر عنه جلالته؛ من عدم السماح بتحليل حرام ولا بتحريم حلال”. إنه النهج الملكي الراسخ الذي أقرّ العديد من الإصلاحات بما في ذلك مدونة الأسرة الحالية في سياق التغيير الهادئ والرصين بعيدا عن أيّ مزايدات سياسية أو استغلال أيديولوجي من هذا الفريق أو ذاك. يحرص جلالة الملك من خلال هذا النهج على تأكيد مكانته الدستورية بصفته أميرا للمؤمنين ورئيسا للدولة مخولاً بممارسة التحكيم بين كافة المؤسسات والفرقاء.
هناك تباين في وجهات النظر فيما يتعلق بالإصلاحات التي يجب أن تقرّها مدونة الأسرة الجديدة. تختلف المطالب والمقترحات باختلاف التيارات والأطياف السياسية والمدنية المتنوعة التي تعكس دينامية فكرية وحيوية اجتماعية يشهدها مجتمعنا المغربي. لقد عبّرت هذه الأطياف والتيارات عن اختلافاتها هذه من خلال المذكرات التي رفعتها إلى أنظار هيئة مراجعة مدونة الأسرة، وهو تمرين ديمقراطي متميز جرى في أجواء من التبادل والتداول السلمي والهادئ على الرغم من بعض محطات الإثارة التي طفت على السطح في محطة أو أخرى. هذا النقاش العمومي الذي شهدته بلادنا خلال الأشهر القليلة الماضية كان تعبيرا عن النضج الذي وصلت إليه التجربة الديمقراطية في بلادنا بعد أن انتقلنا من مرحلة الاستقطاب السياسي الحاد في النقاش حول مدونة الأسرة سنة 2003 إلى مرحلة التوازن والجدل البناء في السياق الحالي.
ومع ذلك فإن المقياس الملكي المستند إلى إحساس بالغ بالمسؤولية التاريخية والدينية والاجتماعية حريص إلى أبعد الحدود على نهج التغيير الهادئ والتدريجي الذي سيفضي ولو على المدى البعيد إلى التحديث المنشود، لكن دون أزمات أو انسداد أو مواجهات مجتمعية تظل بلادنا في غنىً عنها. من هذا المنظور يمكن أن نفهم الحرص الشديد لجلالة الملك على قاعدة “عدم السماح بتحليل حرام ولا بتحريم حلال”. إنها ترجمة واضحة وصريحة لمقتضيات إمارة المؤمنين باعتبار جلالة الملك الضامن الأول لثوابت الأمة الدينية القائمة على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني. وفي طيات هذه الإحالة الملكية إلى المجلس الأعلى للفتوى بُعدٌ آخر لا يقل أهمية، هو الإيمان الملكي الراسخ بدور المؤسسات وأهميتها في تدبير الشأن العام. وينطلق هذا الحرص أيضا من الاحترام الكامل لمقتضيات الدستور الذي ينص الفصل 41 منه على أن الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى هي المجلس العلمي الأعلى.
يبعث هذا القرار الملكي إذاً الطمأنينة الكاملة في أوصال المجتمع، ويُبعد عنه تماما كل التوترات التي ملأت شبكات التواصل الاجتماعي على خلفية النقاش حول مدونة الأسرة. لقد راجت الكثير من الأقاويل والادعاءات في الشهور الماضية، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى تزييف الحقائق وافتعال جدالات لا أساس لها من الصحة أو الواقع. لذا فإن الإحالة الملكية على المجلس الأعلى للفتوى تؤكد بالملموس أن مسار الإصلاح قد اقترب من نقطة النهاية، وأن المُنتج النهائي الذي ستسفر عنه أشغال هيئة المراجعة ثم مجلس الفتوى لن تخرج نهائيا عن دائرة الثوابت مع تلبية الكثير من المطالب والانتظارات التي تشغل بعض الهيئات النسائية على الخصوص.
والأهم من هذا وذاك، أن التدبير الملكي لهذا الورش يُشيع أجواء التراضي والتوافق الوطني العام. هذا الجو الذي أخرج النقاش حول مدونة الأسرة من دائرة التشنج والمواجهة والصراع طوال الشهور الماضية، هو نفسه الذي سينزّل تفاصيل الإصلاح الجديد بعيدا عن أي مشاحنات أو اصطدامات، بالنظر إلى أن الرؤية الملكية حريصة على تحقيق التوازن المطلوب بين المطالب التحديثية وثوابت الهوية. إنه إصلاح يعكس معادلة صعبة في سياقات مجتمعية أخرى، لكنها ممكنة إلى أبعد مدى في سياق الاستثناء المغربي.

زر الذهاب إلى الأعلى