ذكرى عيد العرش.. ربع قرن من التغيير الهادئ واحترام المؤسسات والطموح الواقعي
الدار/ تحليل
يحتفل الشعب المغربي يوم غد الثلاثاء بمرور ربع قرن على تربّع جلالة الملك محمد السادس على عرش أسلافه الميامين. تأتي هذه الذكرى في سياق استثنائي يعيشه المغرب على الأصعدة كافة، بدءاً بالمجال التنموي مروراً بالقطاع الاجتماعي وصولاً إلى الميدان الدبلوماسي. 25 عاماً قاد الملك محمد السادس خلالها سفينة المغرب إلى برّ الأمان والاستقرار وبناء أسس الدولة الاجتماعية التي تحترم حقوق مواطنيها، وتعمل ليل نهار من أجل توفير الحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وضمان الكرامة الإنسانية لهم. ثورة هادئة ورصينة على مدار ربع قرن بوأت المغرب مكانتها المستحقة اليوم بعد أن تحوّل إلى نموذج إصلاحي يُحتذى به في شتى الميادين وقبلة سياحية وثقافية يصبو إليها شعوب العالم.
لم يكن عبور هذه السنوات الطويلة بأمن وأمان تحدياً سهلاً على المغرب والمغاربة. لقد تجاوزنا خلالها محطات تاريخية مشوبة بالكثير من المخاوف والصعوبات والتحديات، ونجحنا جميعاً تحت القيادة الملكية الحكيمة في الخروج منها دون خسائر. كلّنا نتذكر كيف عبّر الملك محمد السادس عن رؤية إصلاحية استثنائية في العالم العربي عندما تعرضت العديد من دول المنطقة إلى رجّة ما سمّي “الربيع العربي”، بدءاً من تونس مروراً بمصر وليبيا وصولاً إلى سوريا واليمن وغيرها. في الوقت الذي شهدت فيه هذه الدول انهيارا تاماً للأنظمة السياسية وانحداراً نحو الدم والعنف والتقسيم، كان للملك محمد السادس رؤيته الخاصة جدا بعد أن قرر بكل هدوء ووطنية إجراء إصلاح دستوري تاريخي يعزز الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويبعد بلادنا عن فخ الصراع والتطاحن.
هذه اللحظة التاريخية شكلت في الحقيقة خلاصة تجربة الملك محمد السادس في قيادة البلاد من توليه السلطة صيف 1999. لقد كان جلالته يميل باستمرار إلى التغيير الهادئ الذي يراعي التوازنات الداخلية ويجنّب البلاد التأثيرات الخارجية، وهو الأمر نفسه الذي حرص عليه حرصا شديدا عندما كرّس خلال العقد الأخير المنهجية الدستورية في تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات، والاحتكام إلى إرادة الناخبين في اختيار الأحزاب التي تمثلهم. وهنا لا بد من الوقوف عند السمة الثانية التي ميزت ربع قرن من حكم الملك محمد السادس. إنها الحرص على احترام دور المؤسسات ومقتضيات الدستور. وقد عبّر جلالته عن ذلك في مناسبات عدة، كان آخرها إدارة الإصلاح المتعلق بمدونة الأسرة وإحالته على المجالس المختصة ومنها المجلس العلمي الأعلى للإفتاء.
إلى جانب التغيير الهادي والحرص على الدستور والمؤسسات، هناك سمة ثالثة ميزت الرؤية الملكية خلال ربع قرن من الحكم. إنها الطموح. نعم لقد اتخذ الملك محمد السادس في مناسبات عدة مبادرات كان البعض يرى فيها قدراً من المغامرة غير المحسوبة، لكنها أثبتت بمرور الزمن أنها كانت رؤية سابقة لعصرها، ولا سيّما بعد أن آتت أكلها لاحقا. على سبيل المثال عندما أطلق جلالته مشروع بناء ميناء طنجة المتوسط، كانت الاعتمادات المالية التي خُصصت لهذا الورش تكفي في نظر بعض قِصار النظر لتشييد الكثير من المؤسسات التعليمية والاستشفائية، لكنهم لم ينتبهوا إلى أن هذه المنشأة الضخمة هي التي ستبوئ بلادنا اليوم مكانة مميزة في ميدان الملاحة البحرية بعد أن أضحى هذا الميناء من بين أكبر 10 موانئ في العالم، وفضاء لاستقطاب الأنشطة الاقتصادية والاستثمارات الضخمة على غرار تلك التي جذبت شركات صناعة السيارات.
هذا الطموح الواقعي هو نفسه الذي وسم الرؤية الملكية لإنشاء مشروع القطار الفائق السرعة ما بين الدار البيضاء وطنجة، وهو نفسه الذي دفع إلى إطلاق ورش بناء ميناء الداخلة الأطلسي، وفتح مجال الاقتصاد الأزرق في الأقاليم الجنوبية. هذا الطموح هو نفسه الذي دفع جلالة الملك إلى فتح وجهة جديدة أمام المغرب والاقتصاد الوطني إلى جانب وجهة الاتحاد الأوربي. لقد قرر جلالته إطلاق سياسة إفريقية مميزة جعلت المغرب اليوم أحد أكثر البلدان تأثيرا في القارة السمراء وارتباطا بأسواقها وشعوبها ولا سيّما في غرب إفريقيا. ويتواصل تعزيز هذه السياسة اليوم بفضل الاستثمارات العمومية الضخمة التي خُصصت لمشاريع تنمية الأقاليم الجنوبية، ومنها مشروع الطريق الرابط بين تزنيت والداخلة، الذي سيتحول قريبا إلى طريق دولي يربط بين أوربا وغرب إفريقيا.
من المفيد جدا تأمّل ربع قرن من قيادة الملك محمد السادس للبلاد لأنها فترة مليئة بالدروس والعبر، والقواعد التي يمكن أن تشكل أسس الحكم الرصين والسلمي والمنفتح. هناك سمات أخرى عديدة ميزت هذا النهج الملكي ولا يسع المقام إثارتها جميعها، لكن هذه السمات الثلاث: التغيير الهادئ واحترام المؤسسات والطموح تمثل مثلثاً استراتيجيا قامت عليه هذه الرؤية الملكية التي سمحت لبلادنا بتحصين حدودها وحماية حقوقها الشرعية، والنأي بها عن مطبّات المغامرات السياسية والأمنية التي عصفت بدول أخرى، وحوّلتها إلى أشباه دول بسبب الحروب الأهلية والفوضى والطائفية وغيرها من الآفات. نحن مدينون إذاً كمغاربة لهذه الرؤية الملكية، التي تقودنا بالمناسبة نحو آفاق أفضل بالاعتماد على قدراتنا الذاتية لبناء نظام اجتماعي يوفر الحماية والتغطية الصحية للجميع، ويستعد لاستقبال الزوار والجماهير من كل أنحاء العالم في مونديال 2030.