الجزائر وصناعة الوهم الكبير في “غيتو تندوف” بين حصار الهوية وإستثمار المعاناة

بقلم/ ذ/ الحسين بكار السباعي
دأبت الجزائر منذ عقود في تعاملها مع قضية الصحراء المغربية ،بدءا بإفتعال النزاع وصولا إلى تغليفه بهوية مسروقة، وتغذيته بثقافة مفرغة من عمقها التاريخي والجغرافي، ولتقدم هذا النزاع المفتعل بعد تغديته بكل أساليب الدعاية والكراهية والتحريض ،على أساس قضية “تصفية استعمار”، بينما هي في الحقيقة فصل من فصول عدوان سياسي على وحدة دولة ذات سيادة كاملة وتاريخ عريق.
العالم الآخر ، الذي يدعي دعم “تقرير المصير”، يمارس كل يوم أبشع أشكال الإنكار الثقافي في داخل حدوده ،بنهج سياسة الإقصاء حين إختار بناء دولة قومية على أساس العروبة الصافية، متجاهلا التعدد اللغوي والثقافي الذي يميز الجزائر، وعلى رأسه الأمازيغية بهويتها العريقة وتراثها المقاوم.
فأبناء منطقة القبايل، الذين كانوا في طليعة المناضلين من أجل تحرير الجزائر، وجدوا أنفسهم بعد الإستقلال هدفا لسياسات التذويب والطمس، بدءا من منع التعليم بالأمازيغية، وتجريم رفع رايتها، ومرورا بتجريم النشاط الثقافي المستقل، ووصولا إلى حملات الاعتقال والملاحقة التي طالت رموز الحراك الأمازيغي، خصوصا بعد حراك 2019.
غير أن التاريخ أن القبايل وشعبها لا يقبلون الإنكسار . من إنتفاضة 1980، إلى الربيع الأسود 2001، إلى الحراك الشعبي، ظل الأمازيغ في القبايل شوكة في حلق الإستبداد، يدافعون عن الحرية والكرامة والإعتراف، في معركة تتجاوز القبايل لتشمل كل الأحرار في الجزائر وخارجها، دفاعا عن التنوع وحق كل شعب في صون لغته وثقافته وهويته.
لنعد ياسادة الى خبت هذا النظام، الذي أتبت للعالم حقيقة واحدة وهي ،”أنه إذا كان كل شيئ يصنع في الصين ، فإن المكر والخديعة وكل أنواع الكدب و السطو والسرقة للتاريخ والثقافة والفن تصنع في الجزائر” . فالثقافة الحسانية التي تزعم الدفاع عنها في محافل دولية، لا تجد موطئ قدم في مؤسساتها الوطنية، ولا في إعلامها، ولا حتى في خطابها الثقافي الرسمي. أبناء الجنوب الجزائري، من تندوف إلى بشار، لا يسمح لهم بالإعتزاز بلسانهم الحساني، ولا بتقاليدهم، ولا بفنونهم الشفوية، بل يطالبون بالتخلي عنها مقابل الدخول في النمط المركزي المفرغ من التنوع.
فكيف يمكن لمن ينفي عن شعبه ثقافته أن يدافع عن “هوية” شعب آخر؟
في المقابل، المغرب لم يحتج إلى اختلاق هوية ولا إلى إعادة تركيب الذاكرة ،فالصحراء جزء من تاريخه السياسي والثقافي والحضاري ، وأمتداد طبيعي لعمقه العربي والإفريقي. وقبائل البيضان لم تكن يوما محتجرة في تندوف، بل كانت فاعلة في بيئتها، من آدرار إلى السمارة، ومن الداخلة إلى تيشيت،و الوثائق التاريخية من روابط البيعة، والمراسلات السلطانية، تشهد بوضوح على أن العلاقة بين المغرب وأقاليمه الصحراوية لم تكن علاقة إستعمار، بل علاقة إنتماء وهوية وسيادة. فكيف يمكن محو قرون من التاريخ بأكذوبة جغرافية رسمتها حرب باردة وأيديلوجية بائدة .
إن الجزائر تمارس اليوم ، جريمة السطو على حقوق محمية ،فعل تسعى من خلاله سلب عناصر من الثقافة الحسانية، وتجريدها من جذورها، وتسويقها على أنها ثقافة “لاجئين” والحال أن فيهم محتجزين سلب حقهم في الرجوع لوطنهم الأم .الحقيقة الاي تخفيها الحزائر أن من تقدمهم كلاجئين هم في الأغلب مهاجرون من شمال مالي ومن التشاد والنيحر وحتى السودان ،إضافةإلى مواطنين جزائريين تم تهجيرهم سياسيا إلى “غيتو” مغلق، يدار من قبل جبهة وهمية لا تملك من الشرعية إلا ما تمنحه لها المخابرات الجزائرية.
إن “غيتو تندوف ” ، ليس سوى نسخة متأخرة من معسكرات الإعتقال الثقافي، حيث تكمم الأفواه وتصادر الهوية ويمنع الفن إن لم يكن مسيجا بشعارات الإنفصال ومزينا بحمل الكلاشنكوف. ومن المأساة أن من يفترض أنهم يدافعون عن “الحق الثقافي” للصحراويين، هم أنفسهم من يمنعون التعدد الثقافي داخل الوطن الجزائري .
وإذا كان النظام الجزائري يراهن على الزمن لنسيان الحقائق، فإن التاريخ لا ينسى. فالوثائق العثمانية والفرنسية والمغربية والموريتانية والإسبانية كلها تجمع على أمر واحد، أن الصحراء المغربية لم تكن يوما بلا سيادة ولا بلا هوية ولا بلا إمتداد. ومحاولات الجزائر لإعادة كتابة الجغرافيا عبر اختطاف الثقافة لن تزيد إلا في كشف عجزها الداخلي، وفشلها في خلق وطن يتسع لتعدده .
ليضل السؤال الذي بات يفرض نفسه مع كل تغير دولي في الموقف من النزاع ، هو ماذا ستفعل الجزائر بكل هذا الحشد الذي ربته في تندوف على خطاب الإنفصال؟ هل تعيده إلى حضن وطن لم يعترف به؟ و هل تعتذر له؟ أم تتنكر له كما تنكرت دوما لكل من لا يصفق للخطاب الرسمي العسكري ؟
فالجزائر اليوم أمام مفترق حرج ،فإما المصالحة مع تنوعها الحقيقي، وإما البقاء رهينة لوهم صنعته ذات يوم لمناكفة المغرب، فتحول إلى عبء داخلي تقيل يهدد بانفجار إجتماعي وثقافي في عمق الجنوب.
ختاما ، الهويات كما الجغرافيا، لا تختزل بخطاب مؤقت. إنها ذاكرة الشعوب، وذاكرة البيضان لا تبدأ من تندوف، بل تمتد من واد نون إلى تكانت، ومن أسا إلى ولاته. ومن حاول طمسها، لن ينجو من لعنة التاريخ، ولا من صرخة الهوية حين تهان.
ذ/ الحسين بكار السباعي
محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان.
خبير في نزاع الصحراء المغربية.