ـــــــــــــــــــــــ
*بقلم: فيصل مرجاني*
ـــــــــــــــــــــــ
هل القضايا في جوهرها عادلة، أم أنها مجرد أداة لفرض مصالح النخب السياسية والفكرية التي تهيمن على المجتمع؟ إذا كانت العدالة هي المعيار الحاسم لأي قضية، كيف يمكن تفسير المعاناة التي جلبتها بعض القضايا على الشعوب التي تحمّلتها؟ هذه المعاناة لا تنبع فقط من عدم عدالة القضايا نفسها، بل من الطريقة التي تُفرض بها هذه القضايا بأساليب قسرية تُحرم أي تفكير نقدي أو حتى فضول بسيط للخروج عن الأطر التي حددتها النخب.
القضايا التي تُعرض على أنها “مقدسة” أو “أصيلة”، كما فعلت العديد من الأحزاب القومية العربية، تصبح في أغلب الأحيان أكبر من كونها مسألة سياسية أو اجتماعية قابلة للنقاش. بل تتحول إلى قضايا ثقافية ودينية ترتبط بالهوية الجماعية للشعوب، ويُطلب من الأفراد الدفاع عنها بلا نقاش. فالأحزاب مثل حزب الاستقلال في المغرب أو حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق وسوريا، على سبيل المثال، قد تبنّوا قضايا مثل القضية الفلسطينية كجزء من الهوية العربية الجامعة. رغم أن هذه القضايا كانت بعيدة جغرافياً عن معظم الدول العربية، إلا أن النخب القومية جعلتها جزءاً من “المقدس” الذي لا يمكن المساس به. هكذا تم تقديم القضية الفلسطينية على أنها ليست مجرد قضية مرتبطة بالحقوق الوطنية لشعب فلسطين، بل كانت أداة لتوحيد الأمة العربية في وجه عدو مشترك.
هذه القضايا التي ارتبطت بالنضال القومي، بما فيها القضايا العميقة والدينية، فرضت على المجتمعات العربية كقضايا ليس فقط للدفاع عنها، بل كأيديولوجيات لا يمكن لأحد أن يشكك فيها. هذا النوع من الفرض لم يكن مقتصرًا على القضايا الكبرى، بل امتد ليشمل قضية الهوية، الوحدة القومية، والمفاهيم الثقافية والدينية التي تم تنميطها لتصبح غير قابلة للشك. وفي هذا السياق، قُوبل كل من حاول الخروج عن هذا المسار بتهم الخيانة والتفكك الوطني.
إن الاستمرار في تقديس هذه القضايا لم يكن مجرد نتيجة طبيعية للصراعات الفكرية، بل كان أداة تم استخدامها لضمان هيمنة النخب السياسية التي عملت على تعزيز شرعيتها السياسية باستخدام هذه القضايا كوسيلة لجذب الدعم الشعبي. وفي العديد من الحالات، مثل تلك التي أطلقتها الأحزاب القومية خلال الخمسينات والستينات، كانت هذه القضايا تُعزز على أنها جزء من إرث جماعي يُتوقع من الأفراد الدفاع عنها بلا تردد. وهكذا أضحت القضايا البعيدة، مثل القضية الفلسطينية، جزءًا لا يتجزأ من البنية الأيديولوجية التي تبرر وجود هذه النخب.
لكن الأشد إيلامًا في هذه الديناميكيات هو أن هذه النخب ما زالت تقتات على هذه القضايا حتى اليوم، بل تُبقيها في دائرة الضوء لأغراض سياسية ضيقة. ففي بعض الأحيان، أصبحت القضايا الوطنية الجوهرية للأوطان والمجتمعات تتراجع أمام القضايا البعيدة، وأصبحت تُدمج ضمن ما يُسمى “الباكيت السياسي”، حيث يتم ربط القضايا الوطنية لأي دولة عربية بالقضية الفلسطينية، لتصبح أكثر قداسة وأهمية من المصلحة الوطنية نفسها. في أعين بعض الجماعات والأحزاب الأيديولوجية والقومية، أُضفيت قداسة خاصة على القضايا البعيدة، لدرجة أن الدفاع عن قضايا الوطن أصبح مرتبطًا بالتمسك بهذه القضايا التي لا تخص الوطن مباشرة. وهكذا، تُقدس هذه القضايا لتصبح أداة لتهدئة الضمير الجماعي بينما تتجاهل القضايا المحلية الأكثر إلحاحًا.
المجتمعات التي أُجبرت على تبني هذه القضايا، غالبًا ما كانت تفتقر إلى الأدوات الفكرية اللازمة لفهم تداعياتها أو للنقد البناء حولها. ففي معظم الحالات، كان يُنظر إلى أي نقاش حول هذه القضايا على أنه تهديد لوجود الأمة وتماسكها. الأفراد الذين حاولوا الخروج عن النسق السائد، أو حتى طرح تساؤلات حول جدوى تقديس هذه القضايا، كانوا يُعزلون اجتماعيًا أو يُتهمون بأنهم “غير وطنيين” أو “خونة”. وكانوا يجدون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع الأنظمة السياسية التي كانت تدافع عن هذه القضايا باسم مصالح الأمة، بينما في الحقيقة كانت تستخدم هذه القضايا لتعزيز سلطتها وإدامة هيمنتها.
هذه الأيديولوجيات تمثل في النهاية حصارًا فكريًا، يُجبر الناس على الانصياع لمواقف لا يوافقون عليها أو قد لا يفهمون عمقها. حيث يصبح الفكر الجمعي محصورًا في رؤية واحدة مفرغة من أي نقد أو إعادة تقييم. في هذه البيئة، يصبح المجتمع عاجزًا عن التفكير العقلاني أو التحليل المنطقي للأمور، وتتحول النقاشات السياسية إلى مجرد شعارات فارغة. أما القضايا التي كان يُفترض أن تكون عامل توحد، أصبحت مصدرًا لتوليد الانقسامات بين الأفراد والجماعات التي كانت تجد نفسها مجبرة على تبنيها دون خيار آخر.
إن المعاناة التي جلبتها هذه القضايا للعديد من الأفراد ليست مجرد نتيجة للتنافس الفكري أو الاختلافات في الرؤى السياسية، بل هي في الحقيقة أداة ممنهجة لفرض السيطرة على الوعي الجمعي. النخب السياسية والفكرية عمدت إلى استغلال هذه القضايا ليس لتوجيه الجماهير نحو العدالة، بل لتشتيت تفكيرها عن التحديات الحقيقية التي تواجهها، ولإدامة سلطتها السياسية والفكرية من خلال التشكيك في هوية الجماهير وتوجيههم نحو معركة غير قابلة للتحقيق.
الطريق نحو العدالة الحقيقية لا يكمن في تقديس القضايا أو فرضها من خلال السلطة أو القوة. بل يكمن في منح المجتمعات الفرصة لإعادة التفكير في هذه القضايا، وتحليلها بعقلانية، بعيدًا عن التبريرات الأيديولوجية التي فرضتها النخب. يجب أن يُسمح للأفراد بالمشاركة في نقاش حر، حيث يمكن لهم طرح القضايا دون الخوف من العقاب أو النبذ.
في النهاية، العدالة لا تتحقق عندما تُفرض القضايا بالقوة أو تُقدس بدون تمحيص، بل عندما يُسمح للأفراد بالتفكير بحرية، ومساءلة هذه القضايا بعيدًا عن الأيديولوجيات والسياسات التي ألبستها النخب لتوسيع نفوذها واستمراريتها.