أخبار الدارسلايدر

المغرب ومعادلة الساحل بين الجغرافية والسيادة، أو حينما يتحول الأطلسي إلى أفق إستراتيجي جديد

ذ/ الحسين بكار السباعي*

يشهد الفضاء الساحلي الأطلسي، تحولات عميقة تنذر بإعادة صياغة معادلات القوة والنفوذ في غرب القارة الإفريقية، وسط تصاعد الوعي الجماعي لدى دول الساحل، وعلى رأسها مالي والنيجر وبوركينا فاسو، بضرورة التحرر من الحصار الجغرافي والإنغلاق الاستراتيجي، والبحث عن ممر سيادي نحو المحيط الأطلسي. وفي قلب هذا التحول، تبرز المبادرة الملكية التي أطلقها الملك محمد السادس كرافعة استراتيجية تعيد رسم حدود العلاقة بين الساحل والمحيط، وتعيد الإعتبار لمنطق التكامل القاري القائم على السيادة والتنمية والأمن المشترك.

المغرب، بصفته قوة إفريقية صاعدة وذات إمتداد أطلسي، لا يقدم نفسه كوسيط أو فاعل خارجي، بل كمكون بنيوي في معادلة الساحل الجديدة، يطرح نفسه كضامن لممر آمن، موثوق ومستدام نحو المحيط. هذا التصور يجد شرعيته في إلتزام المملكة الثابت تجاه قضايا إفريقيا، وفي الرؤية الملكية المتبصرة والحكيمة،التي ما فتئت تكرس منطق الشراكة جنوب-جنوب. ولذلك فإن انخراط دول الساحل في هذه المبادرة لا يعد فقط تجاوبا مع عرض مغربي سخي، بل تعبيرا عن قناعة سيادية بأن المغرب يمثل نقطة التوازن الوحيدة القادرة على خلق تقاطع آمن بين المصلحة الوطنية لهذه الدول والطموح القاري المشترك.
غير أن هذه الدينامية، وإن كانت واعدة، تبقى مشروطة بثلاثة محددات حاسمة تفرض نفسها كعقدة الربط أو الإنفصال في مسار الولوج الفعلي إلى الأطلسي. أول هذه المحددات يتمثل في الحسم الإقليمي حول الصحراء المغربية، والذي يشكل، بحكم موقعه الجغرافي، عنق الزجاجة لكل مشروع يربط الساحل بالمحيط عبر الجنوب المغربي. فدون اعتراف واقعي بمغربية الصحراء، لا يمكن الحديث عن ممر أطلسي والذي سيبقى حبيس المجاملات الدبلوماسية. أما المحدد الثاني، فيتعلق بالمسألة الأزوادية، التي تعد امتدادا للصحراء من جهة الشرق، وتعكس هشاشة الكيان المالي في شماله، مما يجعل أي بنية لوجيستية تمر عبر هذا الحيز عرضة للتهديد المستمر، بفعل تهديد الجماعات المسلحة الناشطة في مختلف أنواع الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية . أما المحدد الثالث، فهو الموقف الموريتاني الذي يراوح بين الحياد المتحفظ والبراغماتية الصامتة، دون أن يرقى بعد إلى مستوى الانخراط الصريح في مشروع قاري يضع نواكشوط في قلب معادلة الربط بين الساحل والمحيط.

إن استشراف مآلات هذه المبادرة يفرض التفكير في ثلاثة سيناريوهات مركزية ممكنة الأول منها إيجابي، ويقوم على إنخراط جماعي حاسم لدول الساحل وموريتانيا في المبادرة المغربية، بما يضمن إنشاء ممر فعلي، اقتصادي وأمني، يعيد رسم خريطة النفوذ الإقليمي، ويعزز من مكانة المغرب كمحور أطلسي-ساحلي. أما السيناريو الثاني، فهو سيناريو المراوحة، حيث يستمر الحماس الخطابي دون قدرة على تذليل العوائق البنيوية، مما يحول المبادرة إلى طموح مؤجل يتهدده الجمود. في حين أن السيناريو الثالث، وهو الأكثر خطورة، يتمثل في فشل المبادرة بفعل تعثر الحلول السياسية للنزاعات القائمة، أو استعادة قوى مناوئة للمغرب زمام المبادرة الإقليمية، بما يدفع دول الساحل إلى الارتماء في أحضان تحالفات غير مستقرة، تعيد إنتاج التبعية بدل الإنفتاح وهذا السيناريو يبقى جد مستبعد في ضل التطورات الإقليمية الأخيرة .
في ظل هذه الاحتمالات، يظل المغرب اللاعب الوحيد القادر على تحويل الجغرافيا إلى أداة سيادة، والمحيط إلى امتداد إستراتيجي للساحل. فمبادرة الأطلسي ليست مجرد مشروع لوجيستي، بل هي رؤية شاملة لتجاوز الجزر السياسية، وربط العمق الإفريقي بمنصة التجارة العالمية، ضمن تصور سيادي، متعدد الأبعاد يتجاوز منطق الطوارئ نحو منطق الإستدامة.
إن المغرب، من خلال مبادرته الملكية، لا يقترح فقط ممرا، بل يعرض على الساحل أن يختار بين البقاء في الهامش أو الانخراط في المدار الأطلسي الجديد.

*محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان.
خبير في نزاع الصحراء المغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى