المواطن

التقاعد عن العمل.. توقف ضمني للحياة عند المغاربة

الدار/ فاطمة الزهراء أوعزوز

 

تكاد تكون حياة الرجل المغربي بعد التقاعد، واحدة من السمات البارزة التي أضحت ميزة للمشهد المغربي، والتي تتمظهر بين الأزقة والشوارع، بل وحتى جنبات الأرصفة، خصوصا حينما يتعلق الأمر بمجموعات من الرجال الذين يصطفون في مجموعات متراصة، يعكفون ليل نهار على مزاولة الأنشطة نفسها، أو بالأحرى النشاط ذاته، وهو المتمثل في لعبة "القمار" "التيرسي"، بالإضافة إلى "لعبة الورق"، فهل التقاعد عن العمل يعني التوقف عن السير العادي للحياة؟ موقع "الدار" يجوب شوارع الرباط، ويجالس كهولا متقاعدين عن العمل لينقل لكم الجواب.

 

تعتبر مدينة الرباط واحدة من المدن، التي تعمرها المظاهر والمشاهد الدالة على أن حياة المغاربة بعد التقاعد عن العمل تفرض نمطا خاصا من العيش والحياة، الذي يقدم نفسه في صيغة مختلفة عن العرف الجاري به العمل في مناحي الحياة الأخرى، خصوصا وأن معظم هؤلاء الأشخاص يقضون جل أوقاتهم في أنشطة متكررة، بل وتكاد تكون هي نفسها في الأيام التي تتداول بين الناس.

حتى تتضح الصورة بالنسبة لهذه الظاهرة في مدينة الرباط، يكفي أن تقف للحظات بين جنبات الحي الشعبي "القامرة"، الذي يعتبر واحدا من أقدم الأحياء التي تضم عددا كبيرا من الأسر الفقيرة وأخرى تنحدر من الطبقات الوسطى، لتكتشف حينها أن حياة الرجل المتقاعد بالفعل، تفرض ظاهرة اجتماعية جديدة، تتميز بوجود مجموعة من الرجال الطاعنين في السن، الذين يقاطعون الحياة وينصرفون في صمت لافت عن الأنشطة اليومية من تسوق وسفر وغيرها من الأنشطة الأخرى، ليستقروا على الأرصفة، عاكفين على بعض الأنشطة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بل يعتبرها المارة مضيعة للوقت.

عن الطائل من هذه التجمعات اليومية، التي لا تكل طوال النهار والتي تستمر في الكثير من الأيام لمنتصف الليل، يقول المتقاعد عبدالرؤوف هاشم، إن هذا النمط من الحياة الذي صار قرينا لنا منذ أن توقفنا عن العمل، لم يكن يوما اختيارا، إنما هو بمثابة الإكراه الذي نلجأ إليه كمتنفس في ظل انعدام البديل، "صرنا شيوخا بلا منفعة، فلا بيوتنا الخالية من الأبناء تحملتنا، ولا الدولة التي خدمناها وقدمنا من أجلها الغالي والنفيس، منحتنا اعتبارا يذكر"، بهذه الكلمات المؤثرة يتحدث هاشم إلى ميكروفون "الدار"، وهو قابع في ركن معزول في مكان قريب من المحطة الطرقية بالرباط رفقة مجموعة كبيرة من أصدقائه الذين يشاركونه المصير نفسه.

في السياق ذاته وأنت تجوب الأزقة الضيقة للأحياء الشعبية بالرباط، لا يمكن أن ينصرف بصرك عن المقاهي الشعبية، التي يعمرها أيضا مجموعة من الأشخاص الطاعنين في السن، والذين يعكفون على لعب القمار وغيرها من الممارسات الأخرى التي يعتبرونها مضيعة للوقت، غير أنهم لا ينكرون أنها تشكل المنفذ والمتنفس الوحيد، الذين يفرون إليه، في ظل انعدام الأنشطة والمجالات المخصصة لأشخاص تقاعدوا عن العمل، وأصبح الفراغ القاتل هو الصفة البارزة في حياتهم الخاصة.

مصطفى الحمداوي، البالغ من العمر 66 سنة، والذي كان يشتغل قيد حياته ساعيا للبريد، دأب على التنقل اليومي بين الأزقة والشوارع، في محاولة لأداء مهمته التي يصفها بالإنسانية والاجتماعية، لأنها تقوم على التواصل المستمر في أفق إطلاع الناس بالمستجدات التي يترقبونها، من خلال مدهم برسائلهم الخاصة، يقول في حديثه لموقع "الدار"، يصعب على إنسان نذر حياته قربانا للعمل الاجتماعي أن يقضي ما تبقى من عمره  بين جدران البيت، خصوصا "وأن المرء في هذه السن غالبا ما يشكو الوحدة، بعدما يمضي الأبناء إلى حال سبيلهم، لإتمام الدراسة أو الاشتغال غير البلد، ومن ثم فمن الصعب قبول هذا التغيير الجذري الذي يطال الحياة الخاصة" يقول الحمداوي.

غير أن الشهادة التي استوقفتني، هي التي تخص ذاك الرجل المسن الذي يكاد يقضي اليوم بأكمه في حديقة يمكن القول أنها "مهجورة" لأنها مخصصة فقط للمهاجرين غير الشرعيين، والمتشردين، وبعض النساء  اللواتي أدمن شرب الكحول بصورة تبعث على الحيرة أمام الملأ وثيابهن ممزقة ومتسخة ويحملن أطفالا صغارا، ومن ثم يصعب أن تحدد أي وظيفة بالضبط يقمن بها، أما شهادة الرجل فهي قوله "إن الاحتماء بالشارع في هذا السن، إنما هو هروب من التصدعات التي تطال الوسط الأسري، الذي يعج بالعديد من المشاكل والاضطرابات التي لم يعد هذا الجسد العليل يقوى على تحملها". ومن قث فقد كانت هذه الشهادة هي المدعاة الأساسية للتساؤل عن الأسباب الفاعلة من وراء هذا الملمح البارز بعد التقاعد في حياة الرجل المغربي؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × ثلاثة =

زر الذهاب إلى الأعلى