سودانيون يتطلعون إلى سدّ النهضة الأثيوبي لوقف فيضانات النيل “المتمرد”
أمام مياه تجري ببطء في قرية قرب الخرطوم، يقف الحاج عثمان على جرفٍ قائلاً "النيل الأزرق متمرّد جدّاً" قبل أن يشير بمِعْوَله إلى منسوب النهر قائلا "الليلة يكون هناك وغداً تلقاه هنا… إنّه سريع بشكل لا تتخيّله !".
ويقول الفلّاح الستّيني لوكالة فرانس برس إنّ النهر عندما يفيض "يجرف كل ما في طريقه من مزروعات ومساكن".
بالنسبة له وللملايين من مواطنيه، توقّف الفيضانات التي تضرب السودان سنوياً وكان آخرها في غشت الفائت حين قتل 60 شخصاً وأصيب عشرات بجروح، حلمٌ لم يكن يتخيّل يوماً أنّ بالإمكان تحقيقه.
لكنّ سدّ النهضة الضخم الذي تبنيه أثيوبيا على النيل الأزرق قرب الحدود مع السودان قد يحقّق هذا الحلم.
وليس بعيداً من حيث يقف عثمان بقامته القصيرة وجلبابه الأبيض بلون قلنسوته، يلتقي النيل الأزرق الآتي من بحيرة تانا الأثيوبية بالنيل الأبيض الآتي من بحيرة فكتوريا في وسط القارة السمراء ليشكّلا معا نهر النيل الذي ينتهي في مصر، "هبة النيل" التي ترى في سدّ النهضة خطراً على أمنها القومي.
السدّ العملاق
وبدأت إثيوبيا ببناء السدّ العملاق في 2012، غير عابئة باحتجاجات مصر التي تعتمد على النيل بنسبة 90 بالمئة لسدّ احتياجاتها من المياه وتؤكّد أنّها تتمتّع بـ"حقوق تاريخية" بمياه النهر كرّستها معاهدات وقّعت بين 1929 و1959.
وتخشى مصر أن يؤدّي ملء بحيرة السدّ بسرعة إلى شحّ في المياه والغذاء لملايين المصريين. وفشلت حتى الساعة جولات عدة من المفاوضات بين القاهرة وأديس أبابا والخرطوم على الرّغم من دخول واشنطن على خطّ الوساطة في التوصّل لاتّفاق بهذا الشأن.
وانطلقت في أديس أبابا الجمعة جولة جديدة من المفاوضات الثلاثية على مستوى وزراء المياه بهدف التوصّل لاتّفاق بحلول 15 يناير 2020 بشأن فترة ملء الخزان.
ولا يزال غالبية سكان إثيوبيا محرومين من الكهرباء. وتؤكّد أديس أبابا أنّ السدّ الضخم البالغة كلفته أربعة مليارات دولار والذي سيصبح أكبر مصدر للطاقة الكهرمائية في إفريقيا (ستة آلاف ميغاواط) سيبدأ بتوليد الكهرباء بحلول نهاية 2020 وسيبلغ قدرته التشغيلية القصوى في 2022.
كمائن الطوب
ولكن إذا كانت غالبية السودانيين ترى في السدّ الأثيوبي نهاية للفيضانات الكارثية، فإن قلّة منهم ترى فيه نهاية لمصدر رزقها الوحيد المتمثّل بـ"كمائن الطوب".
وتقع هذه المصانع التقليدية على ضفّتي النهر، من شماله إلى جنوبه، وتحوّل بطريقة بدائية طمي الفيضان إلى حجارة بناء.
وسط بركة من الطمي المتشقّق بفعل الجفاف، يلتقط يعقوب نورين (40 عاماً) قطعة من الطين، قائلاً "هذا الطمي يأتينا من الهضبة الإثيوبية. إذا بني السدّ فهذه لن تصلنا".
ويضيف العامل في صناعة الطوب وهو ينظر صوب أعمدة الدخان المتصاعد من عشرات الكمائن الواقعة خلفه "هذه مهنة قديمة جداً، توارثناها أبّاً عن جدّ… الآلاف يعملون في هذه المهنة وكلّهم يعيلون أسراً".
وصناعة الطوب الأحمر بسيطة للغاية، تقوم على مزج الطمي بروث المواشي (زبالة) وبالماء وبتراب ناعم (زعفور) يترسّب قرب الجرف.
وينقل هذا المزيج إلى "الأسطا"، وهو عامل يقف في حفرة في الأرض تصل حتى خصره، فيسكبه في قالب معدني ويعطيه لـ"الدبّاشي" الذي يفرغه على بعد أمتار على الأرض في صفوف متراصّة من "الطوب الأخضر".
هذا "الطوب الأخضر" يُترك شهراً ليجفّ، ينقله بعدها "العرباتي" لصنع "الكمينة"، وهي عبارة عن قطع من الطوب الجاف ترصف فوق بعضها البعض لتصبح أشبه بغرفة مربّعة تحشر بين فراغاتها أخشاب وتسدّ فتحاتها بالطين وتضرم فيها النيران، فتصبح فرناً ضخماً تكتوي بناره قطع الطوب طوال خمسة أيام.
وتحوّل عملية الحرق هذه الطوب الأخضر إلى طوب أحمر يباع بسعر 1500 جنيه (32 دولاراً) لكلّ ألف طوبة، وهو مردود جيّد ليعقوب وزملائه.
ولكنّ الدخان المتصاعد من هذه الكمائن يضرّ بالبيئة وبالمزارعين أيضاً. واضطر الحاج عثمان بسببه الى قطع أشجاره المثمرة والانتقال من زراعة الفواكه والخضار إلى زراعة العلف.
ويقول الحاج عثمان "أنا أفضّل أن تُستبدل الكمائن بالزراعة عندها يمكننا تحويل هذه المنطقة إلى منطقة مرويّة نزرعها طوال العام، وذلك أفضل للبيئة ولتسويق الإنتاج في السوق القريبة، وعوائده المادية أكبر".
"فوائد السودان أكبر"
لكن بالنسبة إلى الأستاذة الجامعية إكرام دقّاش، فإنّ فوائد سدّ النهضة لا تنحصر بوقف الفيضانات والحدّ من الخسائر البشرية والماديّة وتفشّي الأمراض والأوبئة، بل تؤكّد أنّ "فوائد السودان من السدّ هي أكبر من فوائد أثيوبيا نفسها".
وتشرح أستاذة العلاقات الدولية في "جامعة الزعيم الأزهري" بالخرطوم أنّ من أبرز هذه الفوائد انتظام منسوب النهر، وحجز الطمي غير المرغوب به (أشجار ضخمة وحيوانات مفترسة حيّة ونافقة) ما يقلّل كلفة صيانة السدود السودانية وتنظيفها، ويزيد إنتاجها الكهرمائي ويطيل عمرها.
وبحسب البروفسورة دقّاش، فإن "النهضة" سيزوّد السودان بكهرباء زهيدة الثمن، ما سيمكّن هذه الدولة الفقيرة ذات الأراضي الخصبة والمساحات الشاسعة من إقامة مشاريع زراعية وصناعية وتنموية مختلفة، لأنّ "الكهرباء تعني النمو".
بالإضافة لذلك، سيجني السودان، بحسب دقّاش، عائدات مالية مباشرة بدل تأجيره لأثيوبيا خطوط التوتّر العالي التي ستستخدمها لتصدير كهربائها.
وتقول "أثيوبيا تبني السدّ لإنتاج الكهرباء وتصديرها، ليس فقط لدول الجوار وإنّما لعموم القارة الأفريقية".
وعن الضرر الذي سيلحق بصناعة الطوب في السودان، تقول دقّاش "هذه ليست صناعة كليّة تتبنّاها الدولة. فئة صغيرة من الشعب السوداني تمارس هذه الصناعة التقليدية التي يمكن أن تُطوَّر وتحوَّل ويعوَّض على العاملين فيها".