في ذكرى وفاة سيدة عشقت الوطن وثوابته
بقلم: يونس التايب*
في مثل هذا اليوم، 16 دجنبر من سنة 2015، فقد المغـرب سيدة اجتمعت فيها الكفـاءة والحـزم والأخلاق، والحـدس الاستبـاقي الكبيـر، والقدرة على العمل لساعات طوال على ملفات ثقيلة، وتحمل مشاق التنقـل في ربـوع الوطـن بدون ملل، لتأدية مهام كانت تعتبرها تكريسا لعشقها لوطنها. ماتت السيدة زليخة نصري، مستشارة جلالة الملك، في ذلك اليوم، وبقيت ذكرى امرأة طيبة، وقـورة، صلبة، مخلصة و وفية لثوابت المغرب.
مسار الفقيدة انطلق يوم ولدت بوجدة سنة 1945، في محيط بسيط وبيئـة محافظـة على التقاليد الاجتماعية. لم يكن ممكنا أن تفرض نفسها إلا من خلال مسار الدراسة والتحصيل العلمي، إلى أن حصلت على شهادة الباكالوريا. بعدها ستكون العاصمة وجهتها، ليبدأ مسار سيتـوج بالحصول على شهـادة الإجـازة في العلـوم القانـونيـة، تلتحق بعـدها الفتاة الطمـوحة القادمـة من وجـدة بالمدرسة الوطنية للإدارة، لتحصل على دبلومها في شعبة المالية والاقتصاد.
كان من الممكن الاكتفـاء بهـذه الشـواهـد للإنطـلاق في حيـاة محترمة والسعي وراء الترقي المهني، وبناء مسار اجتماعي عادي، إلا أن زليخة نصري لم تكن لتكتفي بذلك، من منطلق إيمانها أن المرأة المغربية مؤهلـة لخوض أصعب التحديات، و ريادة أهم المسؤوليات، وتبوء مناصب جد متقدمة. طموحها كان كبيرا في تحقيق أعلى درجات التحصيل الأكاديمي، لذلك حضرت لدكتوراه في القانون الخاص بجامعة جان مولان، بمدينة ليون بفرنسا، و نالت شهادتها بأطروحة متميزة في موضوع “قانون التأمينات بالمغرب”. وكان من الطبيعي، بعد ذلك، أن تلج زليخة نصري مصالح وزارة المالية، وبالضبط إدارة التأمينات، لتبلغ بها أعلى المراتب، في ظروف ليست بالهينة، كان المهيمن عليها أسلوب تدبير تغلب عليه انتماءات محددة، وثقافة اجتماعية معينة، وذكورية حاضرة بشكل جلي ومحسوس ومؤكد.
لم تكن المرحومة تنأى بنفسها عما كان يعتمل في الفضاء العام من نقاشات حول حاضر ومستقبل الوطن. ولكنها لم تكن تبحث عن الأضواء، ولا كانت يوما تسعي لتصدر واجهات الجرائد، ولا كانت تعشق الخروج بخطب وتصرحات رنانة، أو تسعى لترؤس هيئات وجمعيات مدنية، رغم أنها لو أرادت ذلك لنالته باستحقـاق وبإجمـاع كـل من عايشوهـا في تلك المجـالات. كان تركيـز السيدة نصري منصب على الاشتغال على ملفات و قضـايا القرب والإنصـات إلى النـاس، الفقراء والمعوزين منهم، وبخاصة النساء.
كانت المرحومة تتحرك على أساس رغبة جامحة في تحرير المرأة المغربية من قيود الجهل والفقـر والعنف والعـوز، مع المحافظة على أصالتها وانتمائها الثقافي الوطني الخالص. وقد رأيت عن قرب كيف كانت تُفعـل ذلك دون الحاجة إلى اعتماد منطـق المحاججة بمنطق إيديولوجي متصلب، قد تحتاج إلى إبرازه في إطار النقاش لتمرر به قناعاتها. لا… لا… السيدة لم تكن تجد ضرورة إلى إخراج ترسانة الترافع من أجل النوع الاجتماعي والترقي الحقوقي، مع أنها كانت قادرة على ذلك. كانت تكتفي، فقط، بأن تنظر في عيني مخاطبها وتعود به إلى مكامن القيم الإنسانية الجامعة في كينونته، وتُحرك فيه غيرته على "لبلاد… و ناس لبلاد". و كان "تايقضي الله الغرض…" بحكمة وبهدوء تام.
كل تلك الخصال لم تكن لتمر دون أن تتلقفها مقامات الحكمة التي كانت تسعى، في إطار تأهيل تدبير الشأن العام، وتجديد الدماء في عروق هياكل إدارية ومؤسساتية لم تعد نقية لتقوم بتجنيب البلاد السكتة القلبية. ولأن الأمر كان يستوجب جعل الترقي في تقلـد المهام داخـل مؤسسات وإدارات هذا الوطن تمر، أولا، عبر معياري الكفاءة والاستحقاق، بدون اعتبار لأي عامل آخر سياسوي حزبي أو اجتماعي طبقي أو مجالي جهوي، سيبرز للعلن اسم زليخة نصري، سنة 1997، إثر تعيينها من طرف جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، كاتبة للدولة بوزارة الشؤون الاجتماعية مكلفة بالتعاون الوطني، كواحدة من بين أربع نساء ولجن حكومة السي عبد اللطيف الفيلالي، رحمة الله عليه. لينطلق مسـار امـرأة أثبتت قدرات كبيرة على العمل، بصمت وحكمـة، وقـوة في الدفاع عما تراه صائبا من توجهات، لا بوصلة لديها إلا الوفاء لمصالح المغرب ومحاصرة العـوز والفقـر والتهميـش.
انطلاقا من تلك السنة كان لي شرف الاشتغال ضمن ديناميكية عمل جماعي استطاعت تلك السيدة أن تخلقها في صفوف المنتمين للقطاع الذي كانت ترأسه، رغـم التشويش والبلبلة التي كانت تواجه بها خطواتها من طرف البعض، للأسف.
صراحة، لم أكن من المقربين إداريا إلى السيدة كاتبة الدولة، إضافة إلى أنني كنت أعمل في نقطـة بعيـدة عنها بمائتي كيلومتر ويزيد، إلا أنني أشهد الله أن إحساسي بقربي من مسؤول حكومي لم يكن يوما أكبر من تلك المرحلة. كيـف لا، وكاتبة الدولة كانت تركب سيارتها وتحُل بدون بروتوكول ولا بهرجة إعلامية، لتتفقـد ميدانيـا مشاريـع اجتماعية متعـددة كنا نسعى من خلالهـا لسـد العجـز في بنيات الاستقبال الاجتماعية في الجهة، كما كانت رحمها الله تتصل بالهاتف، بدون حرج وبكل تواضع، لتسأل عن تقدم الأشغال، أو لتستفسر عن ملف من الملفات التي بلغ إلى علمها أمـر ما بشأنه.
أشهرا بعد التعييـن، سينطلق ورش كبيـر رعـاه آنذاك سمو ولي العهد الأمير الجليل سيدي محمد، في إطار ما سمي حينها لجنة الأخلاقيات التي انبثقت عنها، بعد ذلك، مؤسسة محمد الخامس للتضامن. كان الاهتمام منصبا على تأهيل المؤسسات الاجتماعية ومؤسسات رعاية المسنين ودور الأطفال، وتقديم المساعدات العينية للفقراء والمعوزين خلال شهر رمضان وكذا في فصل الشتاء ببرده القارس…إلخ. صارت السيدة زليخة نصري عينا لا تنام، تكد وتجتهد وتعمل لتجمع كل الحيثيات والمعطيات بشأن الملفات التي تدبرها، حتى تتمكن من نقل الصورة صحيحة وصادقة، بدون محاباة لأحد أو تستر على خلل. كانت تعتبر أن الأمانة والمسؤولية كبيرة وتحتاج كامل التـركيـز لتكون في مستوى الثقة التي طوقها بها جلالة الملك الحسن الثاني، وكانت تتحدث عن جلالته دائما بتسمية "مولانا السلطان أعز الله أمره"، تنطقهـا بتلقائية جميلـة، وإيمان بأن احترام الأعراف المرعية والتزام مقام التوقير لعاهل البلاد، بما له من رمزية وما له شرعيات راسخة، ليست في شيء متعارضة ولا مانعة ولا متناقضة مع قناعاتها الديمقراطية القوية، ويقينها أن تأهيل البلاد يحتاج تدبيرا عصريا وتحريرا ليبراليا للفكـر الجماعي حتى تنطلق الطاقات ونتمكن من تعـزيـز الأصيـل فينـا وفي هويتنا الوطنيـة، والاستعـداد لمواجهـة تحديـات الحـداثـة والعـولمـة وتدبيـرها بشكـل ناجـع.
توفي جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله عام 1999، وجلس ولي عهده سمـو الأمير الجليل سيدي محمد على عرش أسلافه وأصبح ملكا البلاد. أشهرا قليلة بعد ذلك، في سنة 2000 ، سيسجل حدث غير مسبوق في تاريخ المغرب الحديث، من خلال تعيين تلك السيدة القادمة من المنطقة الشرقية، أول امرأة مستشارة لجلالة الملك محمد السادس. تكلفت السيدة زليخة نصري بالملف الاجتماعي، وأبلت فيه البلاء الحسـن.
وهنا تحضرني ثلاثة أمور و وقائع، مليئة بالمعاني والدلالات، حدثت لي مع المرحومة، سأتقاسمها معكم للتدليل، لمن كان لا يعرف تلك السيدة، على ما كانت تتمتع به، رحمها الله، من رجاحة عقـل و رصانة فكر وكفاءة كبيرة، وما كانت تحمله من قيم إنسانية عالية :
1/ المسألة الأولى، هو بداية وضع استراتيجية تأهيل مؤسسة التعاون الوطني، بشراكة مع مؤسسة البنك الدولي، وكنت حينها المشرف على تدبير "التجربة النموذجية" التي أطلقناها بجهة فاس بولمان، وحققنا خلالها نتائج نالت الاستحسان والتنويه من خبراء البنك الدولي المكلفين بالملف. كان القصد والمبتغى هو تعميم التجـربة ونقـلهـا لجهـات أخـرى من جهات المملكة، ليلعـب التعاون الوطني دوره الاجتماعي الوطني الأصيل، على قاعدة التجديد والابتكار واستنفار طاقات وكفاءات العاملين به. ولكن حصل أن ظهرت للأسف في القطاع، في ذلك الحين، أولى إرهاصات "المقاربة الفئوية" المبنية على "استلاب المؤسسة وتوجيهها لخدمة أهداف ضيقة" بينما هي جعلت لترقى إلى خدمة تحديات الوطن. القصة طويلة ولا حاجة بنا إلى الخوض فيها، إلا إذا تبين ضرورة العودة للموضوع إذا لزم الأمر.
2/ المسألة الثانية، هي إحداث دار للفتاة القروية في نقطة بعيدة ومعزولة بأحد أقاليم الجهة. كانت لعامل الإقليم حينها وجهة نظر واجتهاد في الموضوع، لم يوافق اجتهادي الشخصي، وتحمسي لاختيار موقع بناء دار الفتاة القروية. لا يهم أينا كان رأيه على حق حينها، ولكن للشهادة أن العامل، واسمه فيما أذكر السيد عبد الخالق بن جلون، كان رجلا حرصا وقديرا وخلوقا وفاضلا. المهم، أن ما دافعت عنه وتمنيته تحقق، من بوابة المستشارة رحمها الله، وليس من بوابة العامل. والقصة انطلقت عندما زرت تلك المنطقة، لأجد بها مناظر طبيعية خلابة، وأعي عن قرب بعض أوجه تاريخها المطبوع بشيء كثير من التغييب عن أي مجهود استثماري عمومي. وقفت على ما كان من استحالة لإمكانية أن تتابع الفتـاة القروية دراستها بتلك المنطقة. و وجدت حالة راقية لن تمحى من ذاكرتي، كان بطلها رجل فاضل متقدم في السن، اسمه "السي مازير"، يناضل بمفرده، في ظروف قاسية، من أجل أن يكمـل الأطفـال دراستهم الإعدادية. كان يُسكن الأطفال، وعددهم فيما أذكر كان هو 25 طفلا، في قسم دراسي مهجـور ومتهـالك، ينامون على أسرة لا تحمل من الصفة إلا الإسم. كان الرجل يتألـم لكون بنات الدواويـر والقرى المجاورة لا مأوى لهن، وبالتالي لا يستطعن إتمام دراستهن. أقسمت، حينها، أمام ذلك المشهد القوي أن أنقل إلى السيدة زليخة نصري الحالة بتفاصيلها، وعقدت العزم أن لو كان ضروريا أن أتوسل إليها لتقبل اقتراحي لفعلت، إيمانا مني بمشروعية ذلك الطموح الموضوعي والمتجرد عن أية مصلحة شخصية. للشهادة، لم أضطـر لشيء من ذلك، فأخلاق المرحومة لم تكن تحتاج التوسل ولا كانت لتقبله، بالإضافة إلى أنها كانت تحمل مؤهلات امرأة دولة تستطيع الإحساس بصدق وبغيرة وبكفاءة مخاطبها، فتأخذ من كلامه واقتراحاته ما يمكن أخذه، وترد عليه ما لا يستحق التفعيل. ذهبت لمقابلة المستشارة، بإذن منها، وكانت حينها مشرفة على ملف مؤسسة محمد الخامس للتضـامـن. شرحت لسيادتها المعطيـات الموضوعية للمشروع ومعاييـر جـدواه، ثم تشجعت وتقاسمت معها نقطتين اثنتين، ليقيني أن البُعد الإنساني والوطني في تركيبة شخصية المرحومة كان استثنائيا، و من شأنه أن يهون علي مجهود الترافع بشأن موقع دار الفتاة القروية. أما النقطة الأولى، فكانت هي قصة منظر دلـو زيـت الزيتـون التي كان يشتريها السي مازير من ماله الخاص، ويضعه تحت أحد أسرة نوم الأطفال بجانب الصحون والكؤوس، لغياب مكان لتخزين المواد الغذائية في ذلك القسم المتواجد في نقطة شبه مهجورة. الزيت وخبز الشعير وكوب الشاي، كانت هي مكونات وجبة إفطار الأطفال. و كان عليهم أن يظلوا على ذلك الحال إلى أن يحين موعد الحريرة أو "الحسوة بالشعير" التي كانت تعد لهم للعشاء.
أما ثاني نقطة في حديثي، فكانت بوحا صريحا بأنني أحلم بزيارة ملكية لتلك المنطقة عند موعـد تدشيـن المؤسسة حين ينتهي تشييدها، ليقيني أن الزيارة الملكية كانت ستقلب وجه المنطقة وتفتح أفاقا واعدة لتعزيز السياحة الجبليـة، والتشجير والفلاحة التضامنية، والبنيات الصحية والتعليمية والطرقية، والأهم أنها كفيلة بأن تعيد السكان إلا حضن مطمئن لوطن جامع، بعد أن عانوا لسنوات من أثر تهميش خطير تكالب فيه تدبيـر جماعي متخلف، وتدبير ترابي متوجس أكثر من اللازم، وغياب كلي لأي تتبع من المركز الذي كانت له ربما أولويات أخرى.
وما أن كدت أكمل حديثي حتى قالت السيدة المستشارة بابتسامة حكيمة "الله يسخر… توكل على الله ونسق مع المهندس، ومع مسؤولي تتبع المشروع بمؤسسة محمد الخامس". فكان المشروع، وكانت البناية متميزة وخارج المألوف في فضاء لم يشهد مثيلا لها خلال كامل سنوات الاستقلال، وولجت فتيات من القرى بنية الاستقبال تلك، وأكملن دراستهن بمعدل 60 فتاة كل سنة. ولكم أن تقوموا باحتساب العدد الإجمالي من الفتيات اللواتي أكملن دراستهن خلال 17 سنة الماضية والحمد لله.
3/ المسألة الثالثة، هي تلك المرتبطة بحالة بقعـة أرضية كبيرة، في موقع استراتيجي متميز بوسط مدينة فاس، كانت تابعة لمنظومة المؤسسات الخيرية الفرنسية التي كان أحدثها الاستعمار، وكان ممكنا تحويل ملكيتها بعد الاستقلال للرعاية الاجتماعية المغربية، تحت إشراف مؤسسة التعاون الوطني. كان وراء البقعة جيش من الطامعين يتحينون الفرصة للظفر بالغنيمة، وكان وراءهم مسؤولون محليون، منتخبين وغير منتخبين، يأخذون أمـورا عـديـدة غصبـا وحيلـة، وكنا آنذاك نبحث عن تعزيز بنية تجهيزات الاستقبال تخصص للفتيـات القادمات من مناطق فقيـرة من خارج المدينة. بلغ إلي أمر البقعة وما تتيحه من إمكانية حل المشكل، الذي كانت بعض الجهات تقول أن حله "عسير ومتعذر". وفي أحد الأيام، اتصلت بي السيدة المستشارة مستفسرة. طلبت منها مهلة يوم للبحث في الموضوع والعودة إليها. منحتني المهلة المطلوبة، والتمست مني أن يبقى الأمر طي الكتمان إلى أن تنجز المهمة بسلام. سارعت حينها إلى إجراء اتصالات بقدر كبير من الهدوء حتى لا أثير "زوبعة الغضب المصلحي" محليا. وجمعت نسخا من عقود وشواهد تثبت مسارات الملف، وتبين لي سبيل واضح لتحقيق المبتغى. فاتصلت بالسيدة المستشارة، وحددت هي موعدا بمكتبها خلال اليومين المواليين. ذهبت إلى الرباط حاملا الملف. ناقشنا حيثياته، وظهر أن الإقدام عليه ممكن. فكان ما شاء الله، ونزل الملف متكاملا، وتشرفت المدينة بزيارة ملكية عند وضع الحجر الأساس وعند التدشين. ثم استفادت مئات من الفتيات من بنية الاستقبال، ليتحقق أملهن في إتمام الدراسة الثانوية والجامعية.
في ذاكرتي كلمات إنسانية ومواقف أخرى لسيدة افتقدنا فيها أمورا عديدة، ولكنني أتوقف عند ما ذكرت.
الشاهد عندنا، أن السيدة زليخة نصري أبانت عن انضباط كبير، ودقـة واحترافية متناهية في تدبير ملفاتها، و شجاعة ونزاهة حقيقية، مما أهلها لتنال مزيدا من الثقة الملكية السامية، وتقوم بتتبع ملفات مختلفة ذات ارتباط بالاقتصاد والبنيات الأساسية، خاصة بعد وفاة أحد النجباء المخلصين للوطن، ألا وهو المستشار محمد مزيان بلفقيه، سنة 2010.
كانت السيدة زليخة تتنقل للمدن والقرى، بتوجيه من جلالة الملك، وتترأس اجتماعات تقنية وجلسات عمل لضبط الملفات وتهييئ الشق المرتبط بالمشاريع التي يعتـزم عاهل البلاد تدشينها و الوقوف عليها. وعديدون ممن كانوا يحضرون الاجتماعات التي كانت ترأسها، يشهدون على اهتمامها الدقيق بالتفاصيل، وصرامتها في مواجهة المسؤولين، على اختلاف مهامهم ورتبهم، بالنقص الحاصل في تدبيرهم لعـدد من الأوراش. رهبة كبيرة كانت تحدثها وهي تخاطب بعض "هواة تدبير الشأن العام الترابي" حينها، بأدب واحترام، ولكن بصراحة غيورة عارفة بأن مقام المسؤولية ليس مزاحا، ولا هو امتياز، وإنما فرصة لأداء دور وطني لخدمة البلاد والعبـاد. وكم كانت لا تتردد، عندما يتبين لها أن بعض "الحالات" يستعصي معها الإصلاح والتأهيل، أن تنصح وتوجه، ما استطاعت لذلك سبيلا، بضرورة تغيير الوجوه وتزكية المجـديـن.
و في سنة 2004، يتذكر كثيرون زيارة المستشارة لإقليم الحسيمة المنكوب فور حدوث مأساة الزلزال الذي ضرب المنطقة، حيث مكثت السيدة زليخة في عين المكان أسبوعا أو عشرة أيام متتالية، تهيئ للزيارة الملكية السامية، وتتابع بعدها تفعيل ما تقرر من إجراءات. كانت رحمها الله تبيت قرب العائلات المنكوبة، في نفس ظروفهم تقريبا، و تتفقـد أحوالهم في القرى والمداشر يوميا، تعانق النساء والأطفال، وتبكي معهم بصدق وتأثر بالغ إن بكوا، وتسعى بكل قوة لتدبير حالة الصدمة وما نتج عنها طبيعيا من بلبلة، وما تبعها من سعي "متصيدي المصائب" للركوب على المأساة. وكان لها ذلك إلى حد كبير بتنسيق مع بعض الفعاليات الجمعوية والمدنية.
خمسة عشرة سنة والمرحومة تؤدي عملها باحترام تام لكل أركان المسؤولية، و لم يعرف عنها أبدا انشغالها بصراع هنا أو تموقف هنالك. لم تكن الأنا الذاتية والطموح الفردي هاجسها، ولم يكن شيء من ذلك حاضرا في سلوكها، إلا ما كان مما هو مشروع ومتاح وطبيعي لأي إنسان. كان الأهم بالنسبة إليها هو تقوية الذات الجماعية الوطنية، وبذل الجهد خدمة لثوابت الوطن، وقطع الطريق على المغرضين أيا كانوا، ليبقى المغرب عزيزا، و تنكمش مساحات البـؤس والفقـر والعـوز والظلـم الاجتماعي التي كانت المرأة المغربية ضحيته الأولى، بسبب طغيان ذكورية مقيتـة، وأمية مستشرية، ونفاق اجتماعي يقويه أصحاب مصالح ضيقة لا ترقى إلى استيعاب مصلحة الوطن أولا.
لله ما أعطى ولله ما أخذ… رحمك الله أيتها السيدة المحترمة. غادرتنا إلى دار البقاء و ظلت ذكراك طيبة، مواطنة صالحة، ومسؤولة غيورة نزيهة، وإنسانة متواضعة خلوقة.
ولي اليقين أن قد أنجبت هذه البلاد، وستنجب، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، من يقوم بمقام المسؤولية ويرعاها حق رعايتها، لتبقى لنا شعلة الأمل في أن مستقبل شباب المغرب خير عميم، وأن مواطني المغرب جميعهم يستحقون الأفضل والأزكى.
*فاعل سياسي ومدني