دراسة بحثية ترصد مكانات المرجعية القرآنية في تأسيس المشترك بين الإنسانية
الدار/ خاص
تطرق أحمد الفراك، أستاذ الفلسفة والمنطق بكلية أصول الدين وحوار الحضارات، جامعة عبد المالك السعدي بمدينة تطوان في دراسة بحثية بمجلة “الاحياء” الصادرة عن الرابطة المحمدية للعلماء، الى مكانات المرجعية القرآنية في تأسيس المشترك بين الإنسانية.
وقال الأستاذ الباحث : في خضم بحثنا عن أسس المشترك بين الإنسانية تأكد لنا التمايز والتباين بين مرجعيتين؛ مرجعية واحدية مُضيَّقة ومرجعية توحيدية مُوسعة، الأولى أحادية متحيزة ومتمركزة حول ذاتها وهي المرجعية المادية الوضعية، والثانية عالمية ومنفتحة ومستوعبة وهي المرجعية القرآنية”.
وأضاف :” لذلك نحتاج إلى اتخاذ المرجعية التوحيدية التي تعبر عـن الفطرة الإنسانية السوية أساسا لنقد ومراجعة وتجاوز قصور المرجعية المادية التي تستند إليها الحضارة الغربية، من أجل القدرة على إنتاج نظرية معرفية لها من الإمكانات ما يؤهلها لمخاطبة الإنسان والكون خطابا متخلصا من النظرة الضيقة التي تفرضها الرؤية الوضعية على العالم بسلطانها العلمي والاقتصادي والإعلامي، ومن النظرة التراثية التقليدية الجامدة التي تحولت بفعل عامل الزمن وسلطان التقليد إلى أصلٍ يقاس عليه.
لذلك نروم التأسيس للمشترك الإنساني انطلاقا من المرجعية القرآنية بناء على كونها مرجعية جامعة لجملة من الإمكانات المنهجية والمعرفية التي تحتضن استنباط النظرية وبنائها كالآتي:
إمكانات دينية
تتأسس المرجعية القرآنية على القرآن الكريم، وهو وحيٌ مُصدِّقٌ ومُتممٌ ومكمِّل للوحي السابق عليه وللمعرفة البشرية قديمها وحديثها، فأصول العقائد الدينية واحدة، وأظهر الله القرآنَ على الدِّين كله بالهيمنة والتصديق وليس بالإنكار والإلغاء.
وبالتالي فالمرجعية القرآنية تحفظ المشترك الديني، وتؤسس له عبر خطابٍ يعترف بالآخر المخالف دينيا ويمد له يد التعارف والتعاون والتآخي، وهذا ما يتيح لأتباع جميع الرسائل السماوية أن تتعاون في بناء المشترك الإنساني، وحفظ التنوع الطبيعي والثقافي “لينهضوا جميعا بأمانة أداء مهمة الاستخلاف في الأرض، وليكون التنوع مصدرا لبعث روح التنافس بينهم، في ميادين الإبداع والارتقاء الحضاري، وليحول دون تعطيل أو تخلف أسباب الأداء والإبداع والارتقاء في ميادين عمارة الأرض…
إمكانات إنسانية
القرآن كتاب العالم بلا تحيزٍ جغرافي، وكتاب الإنسان بلا تحيزٍ قومي، وكتاب الحياة بلا تحيزٍ زمني، يخاطب الإنسان في وجوده ومعرفته وقيمه، فخِطابه عالميٌّ وحضارته عالمية؛ حضارة الرحمة والتراحم والمرحمة، حضارة العدل والحرية والسلام، حضارة التعارف والتعايش والعمران، والجميع منتمٍ لأمة الإنسانية.
إن الخطاب القرآني موجه إلى الذات الإنسانية أنَّى كانت، إلى كل فردٍ وكل جماعة، “فإذا جعلنا في بؤرة وعينا أن خطاب القرآن الكريم إنما هو بكل بساطة تعبيـر عن الفطرة الإنسانية السوية الغائية الإعمارية الأخلاقية، وعن سنن الفطرة والكون من حولها، والتي ليست هي إلا حقائق الخلق وجوهره، والتي جاء الوحي لا ليتجاوزها، أو ليتنكر لها، أو ليُغيرها، وإنما جاء لكي يجعل جوهر هذه الفطرة السوية الإنسانية والسنن الكونية في بؤرة وعي الإنسان، وفي بؤرة إدراكه، وذلك لكي يرشِّد فطرة الإنسان، ويهدي مسيرته في سعيه لتحقيق ذاته وفطرته الإنسانية الروحية السوية، والاستجابة لحاجات فطرة خلقه ونوازعه التسخيرية الإعمارية الحضارية.
إمكانات واقعية
أثبت القرآن الكريم قضية الخلق مِن النشأة الأولى إلى أن أصبح الناس قبائل وشعوبا وأمما، أُنزلت عليهم الكتب، وأُرسلت لهم الرسل، ليتحقق ميزان العدل في الحياة، إلا ليقوم الناس بالقسط، إخوة في الإنسانية، لا فضل لعرقٍ على عرق أو لسانٍ على لسان. وبَيَّن السنن الكلية التي ينتظم وفقها الكون والتاريخ، والغاية من الخلق والمصير الحتمي للكون، وحث الإنسان على الاعتبار من كل مظاهر الخلق المختلفة، والتفكر في آلاء الله المنتظمة، مع التدبر في آيات الله المنزلة، والتبصر في الأنفس، فـ”الآيات المخلوقة والمتلوة، فيها تبصرة وفيها تذكرة: تبصرة من العمى، وتذكرة من الغفلة.
إمكانات حوارية تواصلية
بنية النص في القرآن الكريم بنية حوارية تفاعلية إقناعية، تحرص على التواصل مع الآخر، والاشتراك معه، والاقتراب منه، واستثمار المشترك الجامع معه، والإنسان مخاطب بنداء القرآن ليسمَعه، سواء اتبع الحق واهتدى به، أو بقي في دائرة الاستماع والتعرف والجوار. لذلك تكثر عبارات: قال، قالوا، قلنا، يقولون، قل لهم، قيل لهم، يا أيها الناس.. مما يبين حوارية لغة القرآن التي أوردت مادة “قال”، وهي تفيد قيمة التحاور والمجادلة والمناقشة والمراجعة والمجاوبة بين الناس، أكثر من ألف وسبعمائة مرة.خامسا: إمكانات الوسطية
الوسطية خصيصة من خصائص القرآن الكريم، وأمر من الأوامر الإلهية الكلية، ومفهوم يحكم الفكر والسلوك، فالإنسان روح وبدن، عقل وقلب، “لا يعيش تناقضا داخليا بين روحه وجسده، بين القيم الدينية ومتطلبات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فعدم وجود قطيعة بين الدين والدنيا بين الدنيا والآخرة، ينتج عنه من الناحية الفلسفية أن النمط الفكري المستخرج من الإسلام ينفر من الثنائية و لا يمكن أن يدرج في إطار الثنائية ولا يمكن أن يدرج في إطار المثالية أو المادية…فالوسطية هي الأرضية الفكرية والمنهجية للمفاهيم الإسلامية.
إمكانات قيمية أخلاقية
القرآن المجيد كتاب الهداية والرحمة والعدل يصدِّق على جميع القيم الأخلاقية المشتركة ويتممها؛ الصدق والأمانة والأخوة والتراحم والتبادل والسلم والتعاون[11]، وفي مقابل ذلك ينكر جميع الفواحش والرذائل؛ القتل والظلم والخيانة وشهادة الزور والحقد. وتتسع القيم القرآنية لجميع الأفعال الإنسانية سواء المتعلقة بذاته الفردية أو بعلاقة الفرد أو الجماعة بالآخرين أو بالبيئة والعمران.
إمكانات العالمية
تجمع عالمية القرآن بين عالمية الكتاب وختم النبوة وعالمية الخطاب:
القرآن الكريم كتاب العالم، المصدق للكُتب والمهيمن عليها، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة:50)، فلا إلغاء ولا إقصاء ولا عِداء، وإنما هو إتمام وتصحيح واستيعاب. وهذه العالمية المصدقة والمهيمنة تتجاوز ثنائيات الصراع: الإسلام/الغرب، الدين/الدولة، الأصالة/المعاصرة… وتستوعب جميع التعدديات الدينية والثقافية.
في إطار هذه المرجعية واستيعابا لها انتشرت الدعوة الخاتمة انتشارا واسعا في جميع بقاع المعمور، واستوعبت حتى الشعوب التي كانت وثنية من مغول وفرس وأتراك وبربر وغيرهم، وانهارت تلك الثنائية العصبية: شرق وغرب، بالتفاعل الإيجابي لحضارة القرآن مع باقي الحضارات واستيعابها وتجاوزها في نفس الوقت، ولم تكن متحيزة منغلقة على ذاتها.
لا ينبغي أن يوظف المشترك الإنساني مدخلاً لإذابة الفوارق وإلغاء الخصوصيات الذاتية، والتنكر للمختلف فيه، ولا لعولمة ثقافة ما أو تعديل الأنساق القيمية للآخرين مما يتفق ومعايير أنساق الثقافة الغالبة، فهو ليس إدماجا للثقافات، ولكنه نداء المستقبل للشعوب والأمم والأديان والمصالح من أجل تشييد علاقات المشترك الإنساني التي تحفظ الأسس الكبرى لحضارة الإنسان، وتحترم التنوع والاختلاف والتنافس، والإقرار بأن هناك حضارات متعددة وليست حضارة واحدة نسخت الحضارات السابقة عليها. ومن تم لا مندوحة من إعادة النظر في المناهج والنظريات والمعارف الناتجة عن حضارات عالمنا المعاصر والمنتجة لقيمها في نفس الوقت، ليس فقط ما ينتج عن الحضارة الغربية التي يزعم البعض أنها خلاصة التطور البشري ونهاية تاريخه.