كتاب “بابلو إسكوبار والدي”.. الدار تقدم النسخة العربية (الحلقة 15)
الدار/ خوان بابلو إسكوبا؛ ترجمة حديفة الحجام
الفصل الثالث
إحلال السلم مع "الكارتيلات" (8)
وصلنا إلى "كالي" في حدود السادسة مساء، واستقبلونا في فندق دخلنا إليه عبر القبو مباشرة إلى غرفة كبيرة في الطابق الثامن. لم نسجل دخولنا فقد كان المكان في ملك "الكارتيل". وحرصنا بعد أخذ أماكننا على الحديث بصوت خافت لما ظنناه أن الغرف كانت مليئة بأجهزة التنصت؛ كما أني امتنعت عن طلب الطعام مخافة أن يسممونني واقتصرت على شرب الماء من الصنبور.
واكتفيت في تلك الليلة بالانكفاء على نفسي طويلا، مع البكاء والتضرع إلى الله ليحفظ حياتي ويمنحني فرصة جديدة ويلين قلوب جلاديّ. ولأننا كنا على علم أنه لن يحدث شيء إلى اليوم التالي فقد قررنا الذهاب إلى "بالميتا" للسؤال عن بعض أقرباء والدتي. تناولنا الطعام هناك وبعد العاشرة ليلا بقليل تلقينا اتصالا على هاتف المحمول. كان المتصل "باتشو" هيريرا الذي حياها وطلب منها تنظيم لقاء مع عائلة والدي بغرض الحديث عن الإرث وتوزيع الممتلكات.
–سيد باتشو –أجابته والدتي–، لا تقلق بشأن هذا الأمر، سنحله كعائلة لأن بابلو ترك وصيته. نحن هنا الآن لأن السيد ميغيل رودريغيث اتصل بنا لنتحدث في موضوع السلام ولم ينقصنا إلا حضور خوان بابلو، ابني، الذي جاء برفقتي لتسوية هذه القضية.
وفي حدود العاشرة من صباح اليوم الموالي، مر علينا رجل على متن سيارة من نوع رونو 18 بيضاء، بنوافذ معتمة، قال إنه من طرف ميغيل رودريغيث. استيقظت على غير عادتي على الساعة السابعة، وأنا الذي أقضي الصباح راقدا ولا أبدأ النهار إلى أن يحل منتصف اليوم، على غرار والدي. وكما كنت أفعل دائما، قضيت أزيد من نصف ساعة في الحمام فكرت خلالها في أسوء الاحتمالات. بعد ذلك خرجت لاستنشاق الهواء والاشتغال على صوتي بتكرير عبارة: "ستنتهي اليوم هذه المطاردة. ومن اليوم فصاعدا لن أعود للفرار من أي أحد". أمي هي الأخرى لم تستطع إخفاء قلقها حيث ظلت ساكتة بالرغم من أن محاولات فيرناندو حثها على الكلام باءت كلها بالفشل.
–هدئوا من روعكم، لن يحدث شيء –كررت ذلك مرات ومرات، ولو أنها هي الأخرى بدت عليها علامات القلق.
صعدنا السيارة، وفي أقل من عشر دقائق أوصلنا السائق إلى قبو بناء قريب من مقر إذاعة "كاراكول". لم ينتبه أحد إلى أني اعتراني في تلك اللحظة كرب عظيم يشبه إلى حد ما حالة الانزعاج التي يحس بها من يقتادون إلى الموت. رافقنا السائق إلى الطابق الأخير حيث ودعنا وطلب منا الانتظار في قاعة بعيدة بعض الشيء. أثار انتباهي عدم وجود أي رجال مسلحين كما لم نخضع لأي تفتيش.
توجهنا إلى هناك وكم كانت دهشتنا ونحن نرى جدتي إيرميلدا وعمتي لوث ماريا رفقة زوجها ليوناردو، وعمي أرخيميرو وابن عمي نيكولاس جالسين. ساعدت نوافذ المكان المعتمة في إضفاء طابع محزن على اللقاء المفاجئ مع أقاربنا الذين ربما لاحظوا بكل تأكيد حيرتنا، فإلى تلك اللحظة كان يفترض أن والدتي وحدها هي من كانت على اتصال بمنافسي والدي، بهدف إحلال السلام لصالح لكل الأسر.
كيف قدمتم إلى هنا؟ من أتى بكم؟ بدا غريبا ومثيرا للشك كيف أنه بينما كنا نطلع أقاربنا بآخر معطيات عملية السلام، لم يخبرونا هم أبدا أنه كانت لهم علاقات مباشرة مع زعماء كالي. كانت رؤيتهم وهم يتصرفون بأريحية داخل منطقة أعدائنا أشبه بطعنة سكين في القلب؛ فحتى نيكولاس كان يخرج الطعام لنفسه من الثلاجة.
كانت التحية باردة، وبالكاد تبادلنا معهم بضع كلمات خلال عشر دقائق داخل قاعة الانتظار. ولم يقع في خلدي قط أن يتم تأجيل اجتماع كان يفترض فيه إصدار حكم بموتي –بطلب من جدتي من والدي– لمناقشة موضوع تركة ابنها بابلو أولا.
وطلب منا نادل أن ننتقل إلى قاعة أكبر مؤثثة بأريكتين لثلاثة أشخاص، وكرسيين في الجانبين، وطاولة زجاجية في الوسط. وما إن أخذ كل منا مكانه حتى دخل ميغيل رودريغيث أوريخويلا وسار خلفه هيلمير "باتشو"، وخوصي سانتاكروث لوندونيو، رؤوس تنظيم "كالي". أما جيلبيرتو رودريغيث فلم يحضر.
وجلست أنا ووالدتي وفيرناندو في أريكة وبعد ثواني التحق أقاربي من جهة والدي وشغلوا الأريكة الأخرى المتبقية. ظل آل إسكوبار غابيريا يحدقون في أرضية الغرفة ويتهربون من نظراتنا كما لو أنهم علموا أنه جرى قطع كل علاقة بهم في ذلك اليوم، فقد بدا واضحا أنهم خانوا والدي وأسرته. في المقابل من ذلك كان التعامل تجاههم مختلفا تماما. وأتذكر جيدا تعليق أمي حينما عرضت في اجتماعات سابقة الدفع لإنقاذ عائلة والدي بخصوص ما قاله لها ميغيل رودريغيث:
–سيدتي، لا تدفعي من مالك الخاص من أجل تلك الحثالة من البشر، الأمر لا يستحق ذلك. ألا ترين أنهم هم من سيقتلعون عينيك وعيون ابنيك؟ دعيهم يدفعوا حصتهم، فعندهم الإمكانية لفعل ذلك، وهم لا يستحقون كرمك معهم. ثقي بي –أكد على والدي مرات عديدة، لكنها كانت تتجاهله كما فعلت أنا أيضا، إلى غاية ذلك اليوم، حيث تكشف لعب أقاربنا على الحبلين.
ولاحظت في ذلك الاجتماع موقفين متعارضين. فبينما بدا "باشتو" متحيزا إلى جدتي وإلى أعمامي، كان ميغيل في صف والدتي وابنيها. كنا جميعنا ننظر إلى ميغيل رودريغيث الذي جلس في إحدى الكرسيين وإلى جانبه "باتشو" و"تشيبي" سانتاكروث. انتظرنا أن يقول شيئا أو يذيب الجليد على الأقل. كانت ملامحه جادة بشكل مفرط وقد أقول إن كان ممتعضا من طريقة تقطيب حاجبيه. وفي الأخير تحمس للكلام.
–سنتطرق اليوم إلى موضوع تركة بابلو –قال دون تحية–؛ لقد سبق واستمعت إلى الأم وإخوانه، وهم يريدون أن نضم إلى التوزيع الممتلكات التي منحها بابلو لأبنائه في حياته.
بعد ذلك تدخلت جدتي وأصبح الاجتماع أكثر توترا.
–أجل سيد ميغيل، نحن نتحدث عن مباني موناكو ودالاس وأوفني التي كتبها بابلو باسم مانويلا وخوان بابلو لحمايتهم من حجز السلطات، لكنها كانت في ملكه وليس في ملك أولاده. ولهذا نطالب بإدراجها في التركة.
وبينما كان جدتي تتحدث، لم يخطر على بالي سوى التفكير في الوضعية العبثية التي كانت بصدد الحدود أمامي: لقد جاءت جدتي وأعمامي إلى "كارتيل كالي" بغرض حل مشكل خاص بعائلة إسكوبار هيناو في ميديين. ولقد تخيلت والدي في تلك اللحظة وهو يعض أصابعه ندما في قبره بينما يرى طريقة تعامل والدته وأشقائه ضد مصلحة ابنيه.
وبعد ذلك جاء دور والدتي:
–سيدة إيرميلدا، منذ اليوم الأول الذي شيد فيه بابلو تلك المباني كان واضحا أنها تخص ابنيه، لأنه ترك لعائلته أشياء أخرى كثيرة؛ وأنت تعلمين أن تلك هي الحقيقة، حتى وإن جئتم إلى هنا، مع كامل الاحترام بطبيعة الحال، وقلتم أشياء غير صحيحة.
فما كان من ميغيل رودريغيث إلا أن غيّر مجرى النقاش قائلا:
–اسمعوا، أنا أمتلك، على سبيل المثال، شركات باسم أبنائي وهذه الشركات لديها ممتلكات مثلي، إذ قررت أنها لهم وأنا ما أزال على قيد الحياة ؛ نفس الشيء فعله بابلو. وعليه فالممتلكات التي خصصها لابنيه ستبقى لهما ولا نقاش آخر. ما لأبنائي هو لأبنائي وما قرره بابلو لابنيه هو في ملك ابنيه. وما تبقى وزعوه بينكم حسب ما جاء في الوصية.
التزم الجميع الصمت.
مرت فترة طويلة على تدخل ميغيل رودريغيث قبل أن يتدخل ابن عمي نيكولاس وقال جملة أنهت لحسن الحظ ذلك الاجتماع الغريب.
–لحظة، والآن ماذا برأيكم سنفعل بعشرة ملايين دولار التي يدين بها عمي بابلو لوالدي، فكلنا يعلم أن والدي كان يعيل بابلو؟
أدى التعليق الأحمق والمتهافت لابن عمي إلى انفجار زعماء تنظيم "كالي" ضحكا، فنظر بعضهم إلى بعض غير مصدق ما سمع. عند ذلك لم أجد داعيا للتدخل.