الرأيسلايدر

حتى نجعل قانون المالية التعديلي لحظة وطنية

بقلم : يونس التايب

يمر السيد وزير الإقتصاد والمالية و إصلاح الإدارة أمام غرفتي البرلمان اليوم الأربعاء 08 يوليوز 2020 على الساعة السادسة مساء، لتقديم مشروع القانون المالية المعدل للسنة المالية 2020. ولعل ما ينتظره المواطنون والفاعلون الاقتصاديون و الاجتماعيون، هو أن يجدوا في هذا المشروع جوابا شافيا و مقنعا بشأن التدابير والإجراءات المستعجلة التي قررت الحكومة القيام بها لإعادة الروح للاقتصاد الوطني، و تجنيب بلادنا انتكاسة اقتصادية كبيرة.

الأكيد أننا ننتظر أن يخبرنا السيد الوزير، الذي أثبت كفاءة و حضورا ناجعا خلال مرحلة تدبير الجائحة، بقـرارات عملية ذات أثر على المـدى القصيـر، تساعد على استمرار أكبر عـدد من المقاولات في الحياة و عودة الأنشطة التي توقـفـت، والحفاظ على أكبر قـدر من مناصب الشغل. كما أتوقع اجتهاد الحكومة لتيسير تأدية الالتزامات الجبائية للمقاولات وتوفير خطوط سيولة تسهل النهوض بمصاريف التسيير في انتظار عودة الطلبات إلى سابق عهدها. إضافة إلى أشكال جديدة لدعـم الفئات التي لن تستطيع الحفاظ على مناصب عملها، و مواكبتها من أجل تسريع عودتها للاندماج المهني.

القانون المالي التعديلي سيشكل فرصة مهمة أمام الحكـومة، تتيح لها إعادة تقييم وبرمجة ميزانية الدولة على أساس معطيات محينة، و على ضوء أولى انعكاسات الأزمة الاقتصادية الحالية بعد الجائحة. وهنا أتمنى أن لا تنجر الحكومة نحو مقاربة تقشفية، و لا تقع في مصيدة إنفاق غير مُجدي بداعي تشجيع الطلب. المطلوب هو تحقيق التوازن بين تشجيع الطلب و بين ضبط الإنفاق، والحفاظ على أساسيات و مُـرتكزات السياسة النقـدية الوطنية الراسخة في المملكة المغربية، كي لا نسقط في فـخ التضخـم وتتهـاوى قيمـة العملـة الوطنية و نفقد السيطرة على الأوضاع.

المطلوب ليس هـو تقليـص الإنفـاق العمـومي، و إنما إعـادة تقييـم تفاصيل ذلك الإنفـاق كي نجعله بمردودية أعلى، ونوجهه إلى القطاعـات ذات القيمة المضافـة التي تـؤثـر إيجابا على رفاهية المواطنين، وعلى الاقتصاد الإنتاجي وعلى عملية إحداث مناصب الشغل، مع وقف كل أوجه الصرف التي فيها ترف أو تبذيـر للمال العام في الإدارات و المؤسسات العمومية و الجماعات الترابية.

المطلوب من الحكومة هو تـرتيـب أولويات الاستثمار العمومي بحيث نعالج جزءا مهما من العجز في المنظومة الصحية ونغطي الفراغ الحاصل في التأطير و في المعدات، و نبلور نظاما جديدا لتدبير المؤسسات الاستشفائية وكامل القطاع بطريقة تعـزز الشفافية و تُحسن أوضاع الرأسمال البشري. كما علينا أن نعود لورش تأهيل المدرسة العمومية من أجل تحديث الممارسة التربوية واعتماد التعليم عن بعد، خاصة في التعليم العالي، حتى يصبح جزءا من المنظومة التعليمية في كل المستويات، ونخفف التكدس الذي تعرفه بعض المدرجات والمعاهد، و نخفـف ضغط التنقل ومصاريف أخرى لحضور حصة يمكن للطالب متابعتها والتفاعل معها عن طريق وسائط التواصل و تكنولوجيات المعلوميات. لقد أطلقنا تجربة مهمة و يجب أن نقيم نتائجها وأن نطورها، لا أن نتراجع عنها. فقط، علينا أن نراعي التفاوتات الاجتماعية حتى لا نعمـق الفـوارق التي ظهرت بوضوح بين أطفال وشباب ينتمون لأوساط اجتماعية، لهم لوحات إلكترونية وحواسيب و ربط بشبكة الأنترنيت، و آخرون من أبناء الهوامش، لا يتوفرون على شيء من ذلك، وفي النهاية مطلوب منهم جميعا المتابعة والتنافس وإجراء نفس الامتحانات التقييمية.

مساء اليوم، و نحن تنصت للسيد وزير الاقتصاد والمالية، سنركز لنرى هل انتبهت الحكومة فعلا إلى أمر نعتبره استراتيجيا، ألا و هو الـرهان على المقاولة الوطنية و ضرورة إعطائها الأولوية في كل الصفقات العمومية، و دعم تحولها التكنولوجي و الرقمي لتساير متطلبات السوق، و جعل الشراكات الاقتصادية التي تربط بلادنا بعدد من الدول و المجالات الاقتصادية، تخدم الإنتاج الوطني و تتيح تقوية صادراتنا، و تمنحنا فرصا استثمارية جديدة.

كما سننتبه لعرض السيد الوزير لنرى هل أخذت الحكومة ترتيباتها لتتميم دعم مقاولات الشباب و دعم استمرار البرنامج المندمج الذي أطلقه جلالة الملك قبل الجائحة، وكذا تسريع تنفيذ برنامج مدن المهن والكفاءات حتى تصبح لنا منظومة للتكوين المهني قادرة على مواكبة التحـول الذي يعـرفـه سـوق الشغـل، ونوفـر لبلدنا طاقات شابة مؤهلة و قابلة للتشغيل.

سننتظر أيضا ما سيحمله القانون المالي التعديلي لتشجيع عـودة الروح للسياحة الوطنية، وما إذا تم التفكير في دعم الطلب المحلي، و تقديم تسهيلات مالية وضريبية للمقاولات السياحية لنضمن الحفاظ على مناصب الشغل بالمؤسسات الفندقية، وتحصين كامل القطاع إلى أن يعود الطلب الدولي وتتحرك السياحة العالمية.

ولعل ورش القطاع غير المهيكل، بما له من راهنية وثقل اجتماعي كبير، سيكون محط تطلع لنعرف هل بلورت الحكومة تصورا استراتيجيا، أم أننا سنستأنف من حيث كنا، كما لو أنه لم يحدث شيء خلال ثلاثة أشهر الأخيرة. لقد أصبحت المعطيات متوفرة لدينا، و نحتاج إرادة سياسية للتحرك باحترافية و روح تشاركية من أجل تشجيع هيكلة القطاع غير المهيكل و فرض انضباطه لمعايير واضحة تساعد على إدماج العاملين فيه و تمكينهم من تغطية صحية واجتماعية شاملة.

صراحة، رغم كل العجز الذي سببته تداعيات جائحة كورونا على مستـوى مداخيـل الميـزانية، و على مستوى ميـزان الأداءات، و رصيد احتياطي العملة الصعبة لبلادنا، رأيي أننا لسنا إزاء كارثة لا قدر الله، بل نواجه أزمة حادة سنسجل خلالها كغيرنا من الدول، خاصة دول الفضاء الأوروبي الذي نتعامل معه و نتأثر بحالة اقتصاده بالنظر إلى حجم المبادلات و الارتباط الاقتصادي بيننا، تراجعا في نسبة النمو وتقلصا في الناتج الداخلي الخام. ثم ابتداء من أواسط سنة 2021، يجب أن تبدأ الأمور في التحسن التدريجي إذا نحن اتخذنا ما يلزم من إجراءات لتدبير الأزمة بهدوء و حكمة و ثقة في وطننا، دون ارتباك أو تخوف مبالغ فيه.

وحتى نستطيع ذلك، علينا أن نستحضر أن مشكل الاقتصاد الوطني، في جزء كبير منها، يرجع إلى ما يعانيه من عوائق هيكلية ظلت تمنع تقدمه. و للأسف، لم تتقدم الحكومة كما يجب في تنزيل الاختيارات التحديثية الكبرى في منظـومة التـدبيـر في مجموعة من القطاعات، التي أوصى بها بشكل استباقي جلالة الملك في عدة مناسبات. و لا زلنا تقليدانيين في بعض مقارباتنا، و مترددين في تدبيريا العمومي بحيث نرفض تحـريـر الطاقات بالشكل الكامل، و لا زلنا لم نضبط الحكامـة بشكـل تـام، مما يضيع علينا فرصا استثمارية متـاحـة، ويحرمنا من تثمين رصيد المنجزات والتجهيزات الهيكلية التي وفرتها بلادنا خلال العشرين سنة الماضية (الموانئ الكبرى و الربط البحري / الطرق السيارة و السككي / صناعة السيارات / التحول الطاقي / عصرنة قطاع الفوسفاط …إلخ).

بكل يقين، نحن قادرون على المنافسة بشكل أفضل من غيرنا من الدول حتى في هـذه الظروف الصعبة، ويمكننا عبر نموذج تنموي جديد، وعبر تدعيم السيادة الوطنية الغذائية و الطاقية، و تقليص أثر ظاهرة الجفاف التي أصبحت هيكلية، والتعاطي مع ثقل القطاع غير المهيكل، والانتقال إلى سياسة جبائية جديدة تستند إلى خلاصات المناظرة الوطنية الأخيرة بهذا الشأن، أن نسترجع ما سيضيع علينا من نقط تنموية خلال هذه السنة.

و يبقى كل شيء جميل ممكن بشرط إعادة الاعتبار لقيـم أساسية يستلـزمها التنافس الحـر و الإنتاج المستدام الذي يثمـن الثروات الطبيعيـة و يحفـظ المـوارد، و بشرط تعزيز الثقة في قدرة الشباب المغربي على الإبداع والابتكار. و قد حان الوقت لنتـوفـر على سياسـة عمومية تـدعـم البحث و التطوير، و تربط الفضاء العلمي والأكاديمي التقني مع عالـم المقـاولـة، و نستغل فرص تكامل ممكن تفرضه الحاجة إلى استيعاب التحولات التكنولوجية في العالم و ما نحن مقبلون عليه من عصر رقمي من الجيل الجديد.

بشكل عام، سيكون السيد الوزير موفقا في عرضه هذا المساء إذا جعل اللحظة وطنية بامتياز، تتجاوز مجرد عرض حول القانون المالي التعديلي لتعانق أفقا أكثر استراتيجية يجب أن يتأسس حول رؤية وطنية مبنية على ثلاثـة مرتكزات أساسيـة :

1/ تكريس الأولوية الوطنية في الاستثمار و في الإنفاق و في التدبير.

2/ الرهان على شراكة اجتماعية جديدة بين الدولة والرأسمال الوطني و المواطنين، نلتزم بموجبه بإطلاق الطاقات الإنتاجية و الاستثمارية و تحريرها من أية عراقيل، و إعادة صياغة المنظومة الجبائية لتكون عادلة و متوازنة و مُحفزة و كافية لتعبئة الموارد الضرورية لتتمكن الدولة من تحقيق توزيع ناجع للإمكانات و الاهتمام بالفئات الهشة و تقليص التفاوتات المجالية.

3/ تطوير نظام الحكامة ليعكس ربط المسؤولية بالمحاسبة بدون أي تردد أو ارتباك، وبشكل يمنع أي اختلالات في التعاطي مع المال العام. نحن في زمن الأزمة، و لا مجال لأن نسمع عن أي تسيب في تأدية المسؤوليات العمومية، ولا في التعاطي مع الموارد القليلة بأقل من النزاهة المطلقـة.

بهذه المرتكزات و المبادئ سيكون بإمكان بلادنا صيـاغـة جيل جديد من السيـاسات العمومية على أساس تشاركي يجعلنا نستمـر في الإحساس الجماعي بأننا في سفينة واحـدة و علينا أن ننجـو جميعـا. و سيقبل الجميع بفكرة أن الأهم ليس هو نـوع الموقع الذي نحتله في السفينة، طالما توفر إحساس مشترك بأن السفينة تتيح للجميع تطويـر الذات، وتعزيز المكتسبات، و أن لا أحـد سوف يُنسى أو تضيع حقوقه و مصالحه أو يُترك على الهامش.

إذا أدركنا ذلك الإحساس بشكل جماعي، سيكون سهلا تقديم كل التضحيات المطلوبة في إطار التضامن الوطني، بشكل يتناسب مع حجم القدرة الموضوعية التي لدى كل منا على فعل ذلك، و بالنظر إلى رصيد المكتسبات السابقـة للجميع، و سيصبح سهلا إيجاد تـوافقـات عملية حول البرامج التنموية بعيدا عن أي اعتبار فئوي أو قطاعي، و توزيع الميزانيات باعتماد أفق وطني شامل يحقق التقائية المجهودات المبذولة و يضمن بلوغ نتائج تحرك الدورة الإنتاجية والمساواة في العائد.

زر الذهاب إلى الأعلى