بقلم : يونس التايب
وصلتنا ليلة العيد صور أحداث مشينة جرت في سوق للماشية بالحي الحسني بمدينة الدار البيضاء، حيث خلق عدد من المواطنين الفوضى واستحلوا وضع اليد على ما أتى به إلى السوق فلاحون ومربو ماشية، بدعوى أن الأثمنة مرتفعة و لا قبل للناس بها. مشاهد بئيسة نقلتها هواتف محمولة، أظهرت أن البعض أحدثوا عرفا جديدا يجيز أن يتحول ما ليس في متناول اليد بالحلال والقانون، ليصبح متاحا بالعنف والسرقة الحرام شرعا والممنوعة قانونا.
تلك المشاهد والصور انتشرت كالنار في الهشيم، وخرجت للعالمية، وخلفت عدة ردود أفعال استنكرت جلها ما وقع دون السقوط في خطيئة التهوين و التبرير و التطبيع مع الحالة، و لا في فخ التهويل أكثر من اللازم. لكن، رغم ذلك أثارت انتباهي بعض التعليقات و التفاعلات التي ظهر من خلالهما رأيان مجانبان للصواب، في نظري، لأنهما يحملان فهما خطيرا يستدعي تفكيكه و التصدي له بحزم :
– رأي أول، حاول أصحابه تبرير حيثيات و دوافع ما وقع ليلة العيد، إما عبر إلصاق ما حدث بالفقر، و إما بتشجيع تحلل الأفراد من أية مسؤولية في ما يجري في الواقع و رمي الكرة في ملعب الدولة و حدها، او اعتبار سياسات الحكومات هي السبب وإطلاق العنان من جديد لسمفونية العدمية والتيئييس.
– رأي ثان، تعمد تعميم الحالة و المزايدة واسترجاع الحديث عن الضباع و”بوزبال” و جلد الذات المجتمعية أكثر من اللازم، حتى قد يتخيل للغريب عن واقعنا أننا أمام بلد يعيش حالة تسيب أمني، وأن الكل يمكنه أن يسرق الكل، و أن هذا الشعب أصبح مشكلا من الهمج، و عليه لا يستحق أي تكريم أو عناية و احترام. وهذا غير صحيح بتاتا وجرم أخلاقي كبير سأعود إليه في مقال لاحق لإبراز خطورة ما فيه من كوارث تؤذي المجتمع و الوطن.
أما في هذا المقال، سأكتفي بتناول الرأي الأول لأبين المنطق السليم في تناول ما وقع في سوق الماشية، من خلال طرح عدة أسئلة و نقط بشكل هادئ و موضوعي، كالآتي :
– أولا، ما جرى في سوق الماشية بالحي الحسني هو بلطجة مطلقة، واعتداء على ممتلكات الغير، وسرقة ونهب، و ترويع للآمنين، و عنف من مجموعات لها نزوع إجرامي. وهي أمور موجبة للمتابعة القانونية وللإدانة الأخلاقية. و إذا كان صحيحا أن ذلك التسيب ما كان له أن يقع من الأساس، في سوق منظم ومؤطر، ولكن أما و قد وقع ما وقع، فلا شك لدي في أن السلطات الأمنية ستقوم بما يستوجبه مقام المسؤولية من ضبط و إحضار للمتورطين في تلك المخالفات، وتوقيف المعنيين بالإخلال، و إخبار الرأي العام بنتائج البحث في الأيام المقبلة.
– ثانيا، ما تم من بلطجة و سرقة، هي سلوكات لا علاقة لها بفقر السارقين أو بالعوز و التهميش. و من يقول ذلك الكلام عليه أن يتحمل مسؤوليته لأنه، من حيث يدري أو لا يدري، يقول كلاما قد يفهم منه أنه يشرعن للفوضى ويعتبر أن الفقر والتهميش مبرر كاف للخروج على القانون. و هذا خطير و غير مقبول. كما أن هذا القول فيه خطيئة أخلاقية لأنه ينسب للفقراء ما ليس فيهم بالضرورة.
و هنا لابد أن نكون واضحين، و نقول أنه من العيب أن يظن البعض أن مواطنين يمكن أن يكونوا سراقا و معتدين على ممتلكات الغير، فقط لأنهم فقراء. من يقول ذلك الكلام التافه عليه أن يعلم أن فقراءنا لم يختاروا الفقر، بل هو الذي اختارهم و نزل بهم عنوة و خنقهم، و أن فقرائنا هم ضحايا ظروف وسياقات هضمت فيها حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية عبر سياسات عمومية غير نافعة، و حرموا من فرص الإندماج في ديناميكية التنمية بسبب حكامة غير جيدة أو عدم نجاعة أنظمة الحماية الاجتماعية، أو ضعف آليات الإدماج الاقتصادي و التعليمي والمعرفي. و فقراءنا و إن كانوا بالملايين، لا زالوا رغم كل شيء، صابرين يكابدون ظروف الحياة القاسية بشرف، و لا زالوا يحبون وطنهم و ينتظرون أيادي الرحمة كي تواكبهم لينهضوا. ومن كان يقرأ عنهم أكثر مما يلتقيهم في الواقع، عليه أن يعلم أنه إذا اقترب من أغلبية فقراء الوطن سيشعر بالحياء من كرمهم و جودهم بما لديهم رغم أنه قليل، حتى قد يحسبهم أغنياء من التعفف.
– ثالثا، بالنسبة لأثمنة المواشي التي وجدها البعض مرتفعة و أفتى بمسؤولية الدولة في ذلك، أتمنى أن يذكرني أحد متى كانت الدولة تبعث إلى أسواق الماشية مراقبين عموميين يحددون أثمنة الخروف (سنان الحليب) و(الثني) و(الرباعي) و(الخروفة) و(المعزي)، خلال الأيام السابقة على العيد خلال الأربعين سنة الماضية؟ و في حالة إذا ما توفرت الإرادة والإمكانيات البشرية للقيام بتلك المراقبة في كل أسواق الماشية، ليخبرني أحد على أي أساس علمي و موضوعي يمكننا تحديد الأثمنة، دون أن نظلم مربي السردي وخروف بني كيل و خروف بالجعد و تمحضيت و الدمان؟ ثم، ألم نكن دائما نشتغل بقاعدة (اشري على حساب ما في جيبك) ، أو (شري بكري قبل ما يغلا الثمن)، أو في بعض المناطق (تسنى حتى للنهار الأخير، تايطيح الثمن و تايعياو الكسابة، و تايبيعوا ناقص ثمن!)؟ أليس قانون العرض و الطلب هو دائما ما كان يحدد ثمن الماشية منذ كنا نذهب للأسواق؟ ماذا اختلف الآن حتى اقترب البعض من أن يعتبروا ارتفاع الثمن كافيا لنشر الفوضى و شرع اليد؟
– رابعا، على فرض أن مواطنا ذهب إلى السوق و وجد ارتفاعا صاروخيا في أثمنة الماشية، هل يبرر له ذلك أن يسرق كبشا ويضرب صاحبه، و يعود للبيت ليتقرب إلى الله و يتعبد بهذا الذبح العظيم المسروق؟ منذ متى كان الحلال يؤتى عن طريق الحرام؟ ألسنا نؤمن أنه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، فلم يعذب البعض ذواتهم في معارك غير مفهومة بمنطق الشرع، ويسعون بكل الطرق ليشتروا كبشا للعيد و هم ليسوا ملزمين به عندما لا يملكون ثمنه؟ أليست الأضحية سنة للقادر على كلفتها، و ليست ركنا لا يصح الدين إلا به؟ أليس المطلوب شرعا هو ذبح خروف واقتسامه مع الفقراء بالمعروف، تعزيزا للتضامن و الرحمة؟ أليست الحكمة من الأضحية هو الإخلاص لله و الرضا بقضاءه و حكمه، فهل يتحقق ذلك الإخلاص والتعبد والرضا عبر سرقة ماشية فلاح مسكين جاء ليبيعها بعد تعب أشهر في تربيتها ؟ ثم متى سنفهم أن قيام الإمام بذبح الأضحية فيه كفاية، من الناحية الشرعية، و تأدية كاملة للنسك بالنيابة عن الأمة كلها، و أن للجميع الأجر والثواب المترتب على ذلك؟
أطرح هذه الأسئلة كي أنبه إلى واجب التفكير الرصين والتحليل الموضوعي، و ضرورة أن نبتعد عن الشعبوية والمزايدات وقبول التبريرات الفارغة، ونتعاطى بوضوح وبعدم انتقائية مع كل مظاهر فساد الواقع، إذا كنا نريد الخير لبلادنا و لأبناء شعبنا.
لذلك، لا يمكن تبرير بلطجة سوق “رحبة الماشية”، أو القبول بها أو التساهل مع المتورطين فيها، بداعي الفقر و التهميش، لأن إقدام مواطن على سرقة خروف يستحق أن نتناوله بنفس الصرامة التي نتحدث بها عندما يقوم مسؤول عمومي أو مواطن بسرقة من المال العام أو تلاعب بممتلكات عمومية، أو يقوم منتخب أو إداري بالتلاعب بصفقة عمومية، أو يقوم صاحب منصب باستغلال سلطته لأخذ رشوة من أجل تمرير أمر ما بدون وجه حق، أو إغماض العين عن حق كي لا يأخذه أصحابه، أو عندما يلتزم حزب سياسي بالصمت عن قيام مرشحيه بشراء أصوات الناخبين بمائتي درهم كي يصوتوا في الانتخابات على مرشح يعرف الجميع أنه فاسد و جاهل. هي نفس الأفعال من حيث طبيعتها القانونية والأخلاقية والدينية، و كلها حالات مشينة يتورط أصحابها في نفس المصيبة : سرقة الوطن و اغتيال مستقبل أبناءه.
لذلك، كي لا نمنح المغرضين فرصة الاعتقاد أن الأمور متروكة للفراغ، أو أنه يمكن القبول بأن تسير الأمور بلا حسيب أو رقيب، يتعين تطبيق القانون و عدم التردد في التحرك بقوة لردع كل من يحاول تسفيه القوانين و النيل من هيبتها بأي شكل من أشكال الانحراف. و لأنه لا يجوز التردد في الدفاع بوطنية و غيرة على صورة البلد، و على المؤسسات، و على القانون، و على مكتسبات الأمة المغربية، من المهم جدا خلال المرحلة المقبلة الحافلة بالمشاكل و التحديات، أن يكون الخيط الناظم الذي يعزز الطمأنينة و الأمل، هو أنه “اللي بغى يلعب و يخربق، خاصو يعرف أن الضسارة لن تكون مقبولة”، و أن لكل شيء حد، وحدود المرحلة هي مقتضيات القانون و هيبته، و ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وبموازاة ذلك، اعتبارا لأن الواقع الاجتماعي صعب للغاية، والوضع الاقتصادي متشعب الأبعاد و معقد التأثيرات، علينا أن نستلهم مضامين خطاب العرش الأخير و نركز على توجيه مجهوداتنا لبلورة سياسات اجتماعية فيها إبداع وتجديد، واعتماد حكامة تضمن حسن تدبير المال العام، وتحقق التنمية و الإدماج، و نطلق برامج تحارب الجهل و العدمية، و نعيد الاعتبار للأخلاق ولمنظومة القيم المغربية الأصيلة حتى تعود أخلاقيات العيش المشترك إلى الأساسيات التي يجب أن تكون عليها.