فن وثقافة

محمد برادة باحثا عن “النغمة المطلوبة”: أكتب ببطء.. في الأماكن الهادئة

أجرى الحوار: سمير بنحطة

ستون عاما من البحث المضني عن النغمة المنشودة والإيقاع الخاص، قضاها الروائي والناقد المغربي محمد برادة متنقلا بين فنون الأدب، منذ أبدع أولى قصصه القصيرة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي. 

وعلى مدى هذه الرحلة، راكم المبدع المغربي منجزا أدبيا كان، على الدوام، محط ترحيب في الساحة النقدية. مبدع من العيار الثقيل، لم تمنعه الأعوام الثمانون من أن يكتب ويبدع ويعيش.. كأي عاشق، في مقتبل العمر، يحب الفن مثلما يحب الحياة. 

وفي هذا الحديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، الذي أجري على هامش لقاء ثقافي بمدينة دبدو التاريخية (ضواحي تاوريرت)، نتعرف إلى جوانب من طقوس محمد برادة في الكتابة وآرائه في الرواية والأدب: 

دعنا نتوقف، في البداية، عند رواية حياتك أنت. رحلة إبداع تمتد على عقود. لو عدت إلى الوراء ستين عاما، وألقيت نظرة متفحصة على هذا المسار الطويل، أي انطباع يحصل لديك .. أعني ما عصارة هذه التجربة ؟ 

 الرواية عندي أداة معرفة. وهي أداة تسعف الكاتب، أولا وقبل كل شيء، على الاستمرار في العيش. إنها عملية تشبث بالحياة. في الرواية مثلا، قد نضيء جوانب لا تضيئها الإحصاءات الاقتصادية ولا الأفكار الجاهزة. أعني، باختصار شديد، أن الكتابة إنما هي تجسيد ملموس لما تحاول المقولات الفلسفية أن تجرده. إنها رحلة من التجريد إلى الملموس. وكتابة الرواية تكون مجدية، في نظري، عندما تكون وسيلة لفهم أنفسنا وفهم علاقتنا بالآخر. 

سؤال الجدوى الذي تحدثت عنه، أستاذ برادة، يرتبط كذلك بتسويق وانتشار الكتاب. الروائي لا يكتب لنفسه فحسب، ولكنه يكتب، أساسا، لقراء مفترضين. هل تشتكي الرواية بدورها من تدني معدل المقروئية ؟ 

أنا أكتب منذ ستينيات القرن الماضي، ولا أشتكي نسبيا. ولكن أفكر دائما في الشباب المبدع، لأنه يحتاج إلى وقت وإلى جهد متواصل لكي يفرض نفسه في الساحة. وللأسف، كما يلاحظ الجميع، فإن الإقبال على القراءة قد قل. لذلك، لا مناص من أن نكثر من اللقاءات الأدبية، ومن النقد الإيجابي بالنسبة للنصوص المستحقة لذلك، حتى تصبح الرواية – حقا – أداة للمعرفة. لكن ذلك يقتضي مجهودا من الكاتب، حتى لا يكتب أي شيء بدون ترو، ويحتاج مجهودا كذلك من القراء بالإقبال والتشجيع واعتبار الرواية وسيلة لتحقيق حريتهم الخاصة. 

هو مجهود شاق، في نهاية المطاف .. أو لنقل إنه مجهود شاق ولكنه شائق أيضا .. ؟ 

 نعم .. نحن نقرأ الرواية لأجل المتعة ولأجل الانتقال إلى عالم متخيل. ولكن من المفروض أن تساعدنا الرواية كذلك على معرفة ما لا يظهر بمجرد الرؤية العابرة ويحتاج إلى تأمل عميق. 

 الحديث عن الإمتاع والتأمل، أستاذ برادة، يحيلنا على سؤال التجريب. ألا ترى أن الهوس بهذا "التجريب" قد يبعد المنتوج الروائي عن تحقيق غاية الإمتاع وشد الأنفاس؟ 

 لا. التجريب مطلوب، ولكن ينبغي أن يكون مسبوقا بالاطلاع على عينات ونماذج من الرواية العالمية. الرواية هي ملك مشاع، وكل ثقافة تضيف إليه. نحن – مثلا – أضفنا إليه من خلال ألف ليلة وليلة، ومن خلال بعض الحكايات والأساطير. وقد حقق هذا الشكل الروائي منجزات عبر القرون، لابد من الاطلاع عليها لكي لا نبدأ من الصفر. 

على الروائي إذن أن لا يشتغل من داخل القواعد الشكلية الصارمة لأن الخيال المنطلق لا يمكن أن يعلب ؟ 

أنا أقصد أنه لابد من الاطلاع على التجارب العالمية والتمييز بين أساليبها المتباينة. كل شكل يحمل رؤية ودلالات معينة. مثلا، إذا كانت الرواية الكلاسيكية قد جاءت في شكل شبه نمطي وتقليدي فلأنها كانت مرتبطة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بالأخص، بمجتمع يكتسي أبعادا قيمية معروفة، بينما نحن الآن نعيش في مجتمعات متشظية. لذلك، فإن الشكل المتشظي، عندما يكون منجزا بطريقة ذكية، يستطيع أن يوحي إلى القارئ بالكثير من المعاني والدلالات. 

هذا الشكل "يتجاوز" أسلوب السرد الكلاسيكي المبني على تقديم الأحداث والشخصيات ثم العقدة فالذروة، على الطريقة الأرسطية .. 

 نعم .. وكل تجاوز يطمح ضمنيا إلى تأسيس قواعده الخاصة أو شكله المعين. والرواية الحديثة لا تعتمد بالضرورة على الحبكة أو على المفاجأة. يمكن – مثلا – أن تكون عبارة عن مشاهد وحوارات داخلية. 

 في إحدى رواياتك، كتبت هذه العبارة الموحية : "أشعر أن كل ما كتبت لا يرقى إلى النغمة المطلوبة". ولعلك كنت تتحدث على لسان إحدى الشخصيات. هل تشعر، اليوم بعد رحلة العمر الطويلة في الكتابة، أن ما تكتب بات يرقى حقا إلى تلك "النغمة" المرتجاة ؟ 

قليلا .. الحق أنني أطمح دائما إلى أن أجد ما يضيف إلى ما كتبته. طبعا، لا أنكر قيمة ما كتبت. وأشكر جميع النقاد الذين تابعوا أعمالي وألقوا الضوء عليها. ولكنني دائما، من خلال قراءاتي في الرواية العربية والعالمية، أجد أن مجال الرواية في اتساع دائم.. وأنا أعول على الكتاب الشباب، هذه المواهب التي نتطلع إليها. 

 هل تقصد إلى الإيقاع (ولعله النغمة المطلوبة) في كتاباتك.. أعني، هل تقصد إليه عن سابق إصرار ؟ 

 الإيقاع .. والتجويد كذلك. أي الأجواء الممتعة التي تحث القارئ على أن يشغل فكره إلى جانب وجدانه. 

 وهل تعد مخططا قبليا أم تعتمد على تداعي الأفكار ؟ 

أسجل ملاحظات على مدى شهور .. أنا أكتب ببطء، وأسرع رواية تستغرق مني سنتين. 

 تكتب بشكل منتظم ؟ 

أكتب الرواية عندما أحس أن المادة قد بدأت تتبلور. كتاباتي الفكرية يمكن أن أخطها في أي وقت. ولكن عندما يتعلق الأمر بإبداع روائي، لابد أن أكون وحيدا. أتطلب الهدوء لكي أجد إيقاعا في الأسلوب قابلا لأن يستجيب للأحاسيس .. اللغة، في النهاية، ليست معجما فقط، اللغة هي أيضا إحساس يأتي من الداخل .. حاليا، أعيش في منطقة هادئة بجنوب فرنسا، هناك تطيب لي الكتابة، لأنني بحكم السن، لم أعد أتحمل ضوضاء المدن الكبيرة. 

 في شهر ماي الماضي احتفلت بعيد ميلادك الثمانين، ما هي مشاريعك المستقبلية ؟ 

 القراءة.. ومتابعة ما يجري.. وأنا بصدد رواية جديدة.

المصدر: الدار – وم ع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة عشر − ستة =

زر الذهاب إلى الأعلى