هل سقط أمن الفرنسيين ضحية حسابات ماكرون السياسوية؟
الدار / افتتاحية
لا أحد يمكن أن يبرر الأعمال الهمجية والإرهابية التي تشهدها فرنسا هذه الأيام، فكلها أعمال مدانة وإجرامية وجب التصدي لها بكل الإجراءات الأمنية والقضائية اللازمة. فالضحايا من المدنيين الأبرياء لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحمّلوا مسؤولية طيش أو تهور هذا الطرف أو ذاك. وعلينا أن نعترف أن نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة استفزاز صريح لمشاعر المسلمين، لكنه لا يستدعي منهم أبداً الرد بشكل عنيف أو مبالغ فيه يتعارض مع قيم ديننا الإسلامي السمحة ومع دروس سيرة الرسول الأعظم. فالإرهاب لا لون له ولا دين، وإذا سقط اليوم ضحيته الفرنسيون فإن جل ضحاياه كانوا ولا يزالون من المسلمين الأبرياء أنفسهم.
لكن ما حدث اليوم في مدينة نيس الفرنسية بعد هجوم إرهابي مجرم على مرتادي كنيسة “نوتردام” وقتل ثلاثة من الأبرياء، يؤكد أن ما يجري فرنسا لا يبدو أنه سيتوقف قريبا، نحن أمام دوامة من العنف التي بدأت منذ اغتيال أستاذ التاريخ صمويل باتيه بسبب توظيفه للرسوم المسيئة في حصصه المدرسية. وقد تم اليوم أيضا قتل مهاجم آخر في مدينة أفينيون بعد رفعه سكينا في الشارع، إضافة إلى هجوم على قنصلية فرنسية في المملكة العربية السعودية. ولا يمثل هؤلاء الإرهابيون المجانين إلا أنفسهم، ولن يمثلوا أبدا الرأي العام في العالم العربي والإسلامي، الذي استنكر رد الفعل الإرهابي، مثلما استنكر أيضا الإصرار على الإساءة لمشاعر المسلمين.
هذا الوضع الخطير، يدفعنا إلى التساؤل عن الحل، لكن إيجاد حل يعني أيضا فهم الأسباب التي حولت العنف في فرنسا بهذه السرعة إلى دوامة من الأفعال وردود الأفعال المتشنجة. فقبل مقتل صمويل باتيه بأسابيع بدأت فرنسا تعيش على إيقاع جو مشحون ضد العرب والملسمين، كما هو معتاد كلما اقتربت المواعيد الانتخابية، حيث يتحول موضوع الهجرة والهوية إلى ورقة مزايدات انتخابية بين مختلف الأحزاب والقوى السياسية. صحيح أن موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية المرتقبة في 2022 لايزال بعيدا نسبيا، لكن ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون تميزت منذ انتخابه باستمرار الزمن الانتخابي، في ظل الصراع السياسي الحاد بين مختلف التيارات، وتزامن هذه الولاية أيضا مع موجة ثورية غير مسبوقة عبرت عنها حركة “السترات الصفراء”.
فهل يتحمل ماكرون مسؤولية المغامرة بأمن الفرنسيين من خلال استفزازه لمشاعر المسلمين بإعادة نشر الرسوم المسيئة بدعوى قداسة حرية التعبير؟ من الواضح أن أقل ما يمكن أن يقال عن موقف ماكرون أنه لا يتحلى بتاتا بالحكمة. فهو رئيس دولة مسؤول أمام شعبه أساسا عن توفير الأمن والاستقرار لأبناء وطنه أولا وقبل كل شيء، فلا مكان لحرية التعبير في ظل انعدام الأمن وفي ظل أجواء تضع حياة الناس من المدنيين الأبرياء على كف عفريت. لقد كان بإمكان ماكرون أن يضرب عصفورين بحجر واحد لو عبر عن قدر أكبر من الحكمة بالابتعاد عن التحريض والحض على الكراهية من جهة، وحماية أرواح الفرنسيين من الهجمات الإرهابية النكراء من جهة أخرى.
لكن على ما يبدو، لقد اختار ماكرون الدخول في تحدي مجنون في مواجهة مشاعر الملايين من المسلمين عبر العالم، ويضع مواطنيه تحت خطر السلوكات العنيفة الشاذة التي يمكن أن يرتكبها بعض المجانين هنا وهناك. لن نبالغ إذا اعتبرنا أن ما يحدث في فرنسا اليوم من جرائم إرهابية، يخضع لاستغلال سياسوي شنيع ومقيت من كل الأطراف وعلى رأسهم إيمانويل ماكرون الذي ربما يرى في هذه الأجواء فرصة ذهبية لاكتساب تعاطف الناخبين من اليمين واليمين المتطرف.