رصد الاتجاهات بمناهج اللسانيات الحاسوبية .. فتح جديد واعد
عملية رصد الرأي العام باعتماد مناهج تحليل الخطاب والتقنيات المعلوماتية لا توفر فقط مقاربة أكثر نجاعة، وإنما تميط اللثام عما تزخر به من مردودية وظيفية تدفع باتجاه توسيع اعتماد الرقمنة، وتتيح إمكانات استقراء فضاء التواصل الرقمي بما قد يدعم الجانب الأمني، خاصة في بعده الاستباقي، كما توفر إمكانات للتوقع وتمد الدراسات المستقبلية ومصممي السياسات بأرضية صلبة للاشتغال .
ويمثل رصد الرأي العام؛ باعتباره سبرا لطبيعة توجهات وميول الجمهور ومستوى نضجه ودرجة تفاعله وديناميته تجاه قضية ما، وحدة قياس رئيسية في عملية صناعة القرارات في جميع المجالات المتعلقة بالمعيش اليومي للإنسان، بل إنها توفر إمكانية قراءة وقياس مستويات السلم الاجتماعي ودرجات التعايش وحدود الارتياح أو الغضب وغيرها من المشاعر وردود الأفعال التي تتحول بالتدافع الى مواقف .
وتوظف هذه القراءات، التي تكون معظمها أكاديمية، في مجالات عدة اجتماعية وسياسية واقتصادية. وهي لا تتيح فقط استخلاص قراءة ذات مصداقية علمية عن واقع الحال، بل تسمح للمتخصصين بوضع التوقعات المحتملة عما يمكن ان تؤول اليه الأمور في المجالات التي كانت محورا للرصد والتحليل. وتمد بالنتيجة مصممي السياسات في مختلف المجالات، وأيضا منجزي الدراسات المستقبلية بأرضية صلبة للاشتغال. كما توفر للقائمين على الجانب الأمني زخما من المعطيات قد تساعدهم على توسيع دائرة تدخلاتهم الاستباقية .
وفي الغالب الأعم تجري عمليات الرصد وفقا لمقاربتين؛ واحدة كلاسيكية ولعلها الأكثر شيوعا وتركز على البعد الإحصائي، وأخرى ما تزال في طور التجريب والبحث الأكاديمي وهي تتوخى تطبيق مناهج تحليل الخطاب باستخدام التقنيات المعلوماتية الحديثة دونما استبعاد للجانب الإحصائي.
ويلاحظ أن الأهمية الوظيفية لسبر أو استطلاع الرأي العام عادة ما تصعد الى الواجهة المرئية للعموم خلال فترات الانتخابات والانتقالات السياسية والتحولات الاقتصادية.
عن البدايات والمسار التاريخي لعمليات استطلاع الرأي
يعود استعمال مصطلح استطلاع “sondage” إلى القرن الثالث عشر، ويعني فعل ” sonder ” قياس عمق الماء، أو الأعماق عموما بآلة مخصصة لهذا الغرض، وهو يتضمن أيضا مجازا الكشف عن مكامن الأشياء وخفايا الأمور من أفكار ومشاعر وردود أفعال .
وتعود أولى المحاولات لقياس الرأي العام، وفق بعض الدارسين، إلى 1774 بالولايات المتحدة، في عملية كانت اعتمدتها حينئذ مؤسستا أراز للاستطلاعات ومؤسسة بن فرانكلين لقياس الرأي العام؛ وذلك بغرض تحديد مدى استجابة الجمهور الأمريكي لمقترح الحرب ضد إنجلترا من قبل مستعمراتها الثلاث عشرة المتحالفة مع فرنسا (وهي الولايات التي ستصبح في ما بعد النواة للولايات المتحدة الحالية)، وذلك قبل أن تتوالى بعدها محاولات رصد الرأي العام عبر العالم من قبل المؤسسات الإعلامية والتجارية ولأغراض شتى .
وتجسد الاهتمام بدراسة الرأي العام وقياسه في معظم دول العالم من خلال إنشاء معاهد ومراكز ومؤسسات. وأول وأهم هذه المؤسسات معهد غالوب الذي أنشئ عام 1935 وأصبح اليوم مؤسسة متعددة الجنسيات. كما شاع بدءا من عام 1965، خاصة بعد ثبوت نجاح معهد غالوب في كثير من استطلاعاته، استخدام هذه الأداة البحثية في نحو 40 دولة.
ومع التجريب ومزيد من الاستقصاءات تطورت مناهج وأساليب الرصد انتقالا، بحسب الباحثين في هذا المجال، من الدراسات المعيارية الفلسفية الى “حقل النظرية السياسية مع التركيز في بداية القرن العشرين على الجوانب النفسية والاجتماعية أكثر من السياسية والفلسفية”، قبل العودة مجددا في العقود الأخيرة الى ” التركيز على الأبعاد الفلسفية والسياسية من خلال مواضيع السلطة والمشاركة السياسية والانتخابات”، في ظل إسهامات باحثين متخصصين في علمي النفس والاجتماع.
الرأي العام بين المقاربات والبعد الوظيفي لعمليات الرصد
ويرى العاكفون على بحث وتعميق اعتماد مناهج تحليل الخطاب والتقنيات المعلوماتية الحديثة في عمليات الرصد أن هذا التوجه لا يوفر فقط مقاربة أكثر نجاعة تهتدي بالبعدين الإحصائي واللساني الرمزي معا، وإنما يمنح إمكانات تجريب تقنيات حديثة يمكن اعتمادها في بناء أساليب إنتاج وتدبير وتسيير جديدة تمس مختلف جوانب الحياة؛ خاصة من خلال الاسترشاد بالرقمنة والميل صوب تعميمها على نحو متنام في تنفيذ مهام عديدة عن بعد.
ويؤكد الفاعلون في مجال رصد الرأي العام أن هذا المبحث العملي يرسخ “قيم الشفافية والديمقراطية” ويتضمن اعترافا أكيدا ب “قدرة” المواطن والجمهور عموما على “التأثير في صناعة القرار”، وهو قبل ذلك، يتطلب تظافر الكفاءات والتراكم المعرفي في مجالات شتى وتوافر شروط علمية ولوجيستية للوصول الى نتائج محايدة.
ولا تبتغي هذه العملية، باستنادها على الموضوعية العلمية، التأثير على مجريات الأمور وإنما رصد تفاعل الجمهور؛ كفاعلين أساسيين في المجتمع، وليس فقط كمنفعلين بما يقع أو مجرد ناخبين أو مستهلكين، وبالتالي فهم حقيقة تأثرهم بما يجري، وسبر مستوى وعيهم بما وبمن حولهم، وأيضا تتبع ما طال توجهاتهم من تحولات أو ما هو بصدد التبلور. وفسح المجال عبر ذلك لقراءة والتنبؤ بملامح التحولات الآتية، ووضع هذه النتائج رهن إشارة قطاعات عريضة من المهتمين؛ باحثين وإعلاميين، وفي مقدمتهم المسؤولين عن تدبير مختلف القطاعات، قصد مساعدتهم على اتخاذ القرارات وصياغة البرامج وتحديد الأهداف.
ولتحقيق هذه الغاية في شموليتها تشكل دراسات قياس الرأي العام نقطة التقاء مجموعة من المهارات والتقنيات الحديثة والعلوم كعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة والتاريخ والإحصاء والرياضيات والذكاء الاصطناعي وغيرها.
اتساع مجال الاستقراء واستخلاص المعلومة
ما من شك أن الأنترنت، وفي ركابه وسائل التواصل الاجتماعي بتعدديتها، وفرت فرصا لامحدودة للتعبير عن الآراء والمشاعر والعواطف، وبالتالي وسعت مجال الرصد والاستقراء، كما أن الفضاء العنكبي بات مجالا ثريا وميسرا للولوج الى المعلومات واستخلاص البيانات من قواعد المعطيات المتضمنة لبلايين النصوص وملايين المواقع المفهرسة فقط بمجرد كبسة زر في نطاق محركات البحث المتعددة . وبالنتيجة استغلال المعرفة، بالسهولة العملية ذاتها، في تدبير وتطوير قطاعات استراتيجية كثيرة ومتداخلة، ثقافية واقتصادية وتكنولوجية وتجارية واستعلاماتية ومعرفية.
وأوضح عز الدين غازي، أستاذ باحث في الهندسة اللسانية والذكاء الاصطناعي والترجمة الآلية، في حديث خص به مجلة (BAB) التي تصدرها وكالة المغرب العربي للأنباء شهريا، أن العديد من المختبرات العلمية في الهندسة المعلوماتية والهندسة اللسانية تمكنت، في سياق تقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتسارعها المستمر، وبإيعاز ودعم من الشركات العملاقة في ميدان المعلوميات والهواتف والألواح الذكية والحواسيب المتطورة، من وضع برمجيات ناجعة في مجال استخراج الرأي اعتمادا على النصوص والصور واشرطة الفيديو.
وسجل أن المجتمع العلمي المختص تمكن، في هذا الخضم، من تطوير أساليب عقلانية جديدة تمثلت في بناء منصات حاسوبية متخصصة في مجال المعالجة الآلية للنصوص والصور واللغات الطبيعية والعلامات السيميائية .
ولفت عز الدين غازي، الأستاذ الجامعي والعضو الدائم بمختبر تحليل الخطاب والأنساق المعرفية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة القاضي عياض –مراكش)، الى أنه في سياق مختلف مقاربات رصد واستقراء واستخلاص الرأي من النصوص، سواء المعتمدة منها على البعد الإحصائي أو المستندة الى المنهجية اللسانية والسيميولوجية في استحضارها لأجزاء الخطاب أو الجامعة بين الطرفين، يجري الاعتماد في البحث على احصاء الوحدات المعجمية والبنيات الصرفية والتركيبية وحساب درجة ورودها وتكرارها في النص مثل عدد الصفات وأنواعها وسياقها لاعتمادها في تحديد المضامين المتصلة بالكشف عن الميول والتوجهات.
وأوضح الباحث أنه غالبا ما يتم تغيير المقاربات حسب خصوصية الانظمة اللسانية، مشيرا الى أنه تم في هذا الإطار وضع تصاميم مبتكرة تتخذ نهجا جديدا لإنشاء مداخل المعجم التلقائي من صفات وظروف وبنيات صرفية تكون حاملة للمعرفة وللقيم الذاتية والموضوعية ومشحونة كفاية بما يكشف عن قطب الرأي او الشعور وردود الأفعال إزاء مجال او موضوع مادي او معنوي او حتى عقائدي .
وتابع غازي، الذي ينشط كباحث في الوكالة الدولية لهندسة اللغات الطبيعية (جمعية بحثية مقرها بفاس)، أن التجارب أظهرت بشكل ملموس التقدم الكبير في الحصول على تصنيفات للآراء وللبيانات الحقيقية بشكل دقيق وعلمي بقيم صورية تراعي الأساليب المتقدمة للذكاء الاصطناعي، كما تستجيب لمتطلبات سوق البرمجيات والالكترونيات، وخاصة التطبيقات التي ت ستغل للحصول على المعلومات وتصنيفها لأغراض اقتصادية صناعية ومعرفية وثقافية وسياسية.
المصدر: الدار- وم ع