العلاقات الدولية لا تحتمل الخطاب الاختزالي حول صراع الأديان والحضارات
بقلم ✍️ منتصر حمادة
نحن ضيوف كتاب قيم يحمل عنوان “تعايش الثقافات: مشروع مضاد لهنتنغتون” لصاحبه هارالد موللر، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة فرانكفورت الألمانية وعضو في “لجنة نزع السلاح” التابعة للأمين العام للأمم المتحدة، ورئيس معاون لجماعة “العمل من أجل السلام وحل النزاعات” في وزارة الخارجية الألمانية، وله مؤلفات كثيرة في مواضيع تتصل بالعلاقات الدولية ومسألة التسلح النووي ورئيس مؤسسة “هيسين” الألمانية لبحوث السلام والصراع بفرانكفورت.
مع مطلع الكتاب، نقرأ شهادة للمؤلف حُرِّرَت خصيصاً للترجمة العربية، يُقرّ فيها بأن العرب يُمَثلون “أمة غنية التراث”، فقد “حفظت اللغة العربية والعلماء العرب كنوز المعرفة التي حققها الإغريق والرومان في العصور القديمة عندما كانت أوروبا تغطّ في “عصورها المظلمة”. ومن دون هذا الجهد التاريخي الذي قام به العرب ــ يضيف موللر ــ ما كان لنا أن نكون على نحن عليه الآن”.
يتعرض المؤلف في الفصلين الأول والثاني من القسم الأول من الكتاب لقواعد نقده الأساسية لصامويل هنتنغتون، متوقفاً في الفصل الأول عند مفهومي “الثقافة” و”الحضارة”، ومتتبعاً القوى التي تدفع إلى تطور الثقافات في وقتنا الراهن، وقد خُصِّصَ القسم الثاني لفحص أسباب النزاعات العنيفة ومجرياتها في ضوء السؤال التالي: هل وجدت تكهنات هنتنغتون تحققاً لها في الحروب الحالية؟
أما القسم الثالث، فقد اشتغل الكاتب على الأقاليم الكبرى قي السياسة الدولية: الغرب وآسيا والعالم الإسلامي وروسيا ومجالها، وكذلك أقاليم “الأطراف”، أي إفريقيا وأمريكا اللاتينية. وخُصِّصَ القسم الرابع والأخير لطرح تصور أو سيناريو لمسار العلاقات اللاحق بين هذه الأقاليم، مضيئاً التأثيرات المحتملة لـ”عوامل الاضطراب” مثل الإرهاب والأضرار البيئية والهجرات الجماعية الكبيرة.
يتجه الكتاب للتصدي لمحاولة اختزال العلاقات المعقدة في السياسة الدولية في نموذج “نحن ضد هم” المبسّط. ويهدف على الخصوص إلى التأكيد على أن قوى الدفع العنيفة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، التي تحدد عصرنا، لا تستدعي فقط مخاطر لا جدال فيها، ولكنها تتيح أيضاً الفرص لتجسير التناقضات الخطيرة بين البشر والشعوب.
يوجه المؤلف انتقادات كبيرة للعديد من “النجوم الإعلاميين” الذين يوصفون عادة بأنهم “خبراء إقليميون” أو “خبراء الشرق الأوسط” أو “عارفون بالإسلام”.. إلخ، ونخص بالذكر في هذا المقام الكاتب الألماني بيتر شول لاتور الذي سبق هنتنغتون بسنوات طويلة في تصوره التقليدي عن الصراع الجوهري بين الثقافة المسيحية الغربية والإسلام، (وقبله عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة من خلال مؤلفه الموسوم بـ”الحرب الحضارية الأولى”) فالرجل يستعرض حماسه بوعي على شاشات التلفزة في أوقات الأزمات.
وضمن هؤلاء نجد أيضاً بسام الطيبي، أستاذ السياسة والتاريخ الإسلامي المعاصر في جامعة غوتنغن، والذي يُعدُّ من أكثر المروجين من الوسط الأكاديمي لنظرية “صراع الحضارات” في ألمانيا، وإن برؤية إمبيريقية مُرَكبّة، حسب وصف الكاتب، فالطيبي يتمتع بحضور إعلامي قوي وخاصة في أوقات الأحداث والأزمات الكبيرة، وتكفي الإشارة إلى عنوان كتابه “حرب الحضارات: السياسة والدين بين العقل والأصولية”، للدلالة على أن الطيبي يرفع شعار “صراع الحضارات” إلى الواجهة الأمامية، وهو لا يرى أن “الضغينة بين العرب والمسلمين من جهة، والعالم الغرب من جهة مقابلة، تعود إلى الحقبة الاستعمارية، وتأسيس دولة إسرائيل ودعمها بلا حدود، بل إلى أسباب تاريخية أكثر عمقاً، فأوروبا هي التي وقفت في وجه التوسع “الإمبريالي” الإسلامي ووضعت حدّاً له في العصور الوسيطة، وعليه، فلا مبرر الآن لشعور بعض المثقفين في الغرب بالذنب تجاه العرب والمسلمين”.
تتمحور أطروحة موللر الأساسية في هذا الكتاب حول حتمية اللجوء إلى قراءة مُعقّدة ومُركّبة من أجل فهم ما يجري في العالم اليوم، في تقاطع واضح مع أطروحة المفكر المصري عبد الوهاب المسيري حول الحاجة إلى نموذج تفسيري مركب لتفسير الظواهر الاجتماعية.
والحال، يضيف موللر، أن عالمنا المعقد يقف بصرامة لا تخلو من سخرية ضد التبسيط الشديد الذي ميّز نظرية هنتنغتون، والذي يقع فيه الكثير من المفكرين والساسة الأمريكيين استجابة لحاجة جمهور عريض غير معني أصلاً بالعالم الخارجي، ولا يعنيه أن يتتبع تفاصيل كثيرة مرهقة، أو يعرف خلفيات معقدة، بل يريد توجيهات سريعة واضحة من قبيل: إننا نقف مع الخير ضد الشر، أو مع الحرية ضد القمع.. الخ، انطلاقا من مبدأ “نحن ضد هم” السهل.
نحن أمام مشروع مضاد ومقنع ضد أطروحة هنتنغتون، والعمل بشهادة أحد نقاده الألمان، يقدم نقداً تمت صياغته بشكل واضح على النظرية إياها، وتحليلاً للظواهر الأكثر أهمية التي قدمها هنتنغتون بوصفها أحلافاً ثقافية، مثلما يقدم طرحاً يحتوي على نظرة عالمية فيها كثير من التفاؤل.
وبرأي مترجم الكتاب، الباحث إبراهيم أبو هشهش، فإن موللر لا يغرق القارئ في تفنيد كتاب هنتنغتون بما فيه من وقائع وشواهد وتفصيلات لا حصر لها، بل يمضي مباشرة إلى تقديم مشروعه المضاد لرؤية هنتنغتون القاتمة، ويقدم مشروعاً عالمياً فيه كثير من التفاؤل المؤسس على معرفة رصينة، مدعّمة بالحجج والأسانيد، وقائمة على منهج علمي محكم، مستنتجاً أن العالم ليس في سبيله التأسيس لتحالفات حضارية تقف في حالة صدام ومواجهة بعضها ضد بعض، وإنما سبيله المزيد من التعاون والتشابك والارتباط، وذلك اعتماداً على ثلاث ديناميات جوهرية تحول دون تشكيل مثل هذه التحالفات الصدامية، وهي: دينامية عالم الدول ودينامية عالم الاقتصاد ودينامية عالم المجتمع.
لا يتم الإلمام بالتعقيد المتزايد للعالم في هذه النظريات والنماذج، بل يجري التقليل منه بشكل كبير لدرجة أن كثيراً من المتغيرات والعوامل الهامة ذات الأثر الحاسم في الأحداث السياسية للعالم، يتم استبعادها من مجال النظر. وهذا أكبر عيب منهجي سقط فيه صامويل هنتنغتون.
إن التبسيط البالغ يناسب حاجة جمهور متوسط إلى حقائق وتأويلات مبسّطة يمكن مضغها وهضمها تماماً. وفي الولايات المتحدة بالذات، فإن الهيئة الأكاديمية، وخاصة قمتها التي تمثلها، تضع عينها دائماً على سوق الكتب الأكثر مبيعاً وعلى البرامج التلفزيونية، أما الأطروحات المعقدة التي تتناول بالشرح الصحيح، ولكن الصعب، التناقض والمصادفة والتنوع والمناطق الأخلاقية الملتبسة في السياسة الدولية، فإنها ستكون عسيرة على هذا المنحى المتوسط.
يرى موللر أن “النظريات السياسية المبسطة تتبع في العادة نموذجاً سهلاً يمكن يصفه بأنه “علم سياسة مانوي”، والمانويون، هم أتباع أحد مذاهب العصور القديمة الأخيرة ممن يقسمون العالم إلى قطبين متقابلين، والصراع بين هذين القطبين: النور والظلام، يحدد الأحداث العالمية. وبرأي المؤلف، فإن المانوية تضرب بجذورها عميقا في الثقافة السياسية الأمريكية وفي تاريخها، بحيث وضع مؤسسو الولايات المتحدة وعيهم الجماعي مقابل أوربا المفتقرة للتسامح والرجعية، والتي مزقها الاضطهاد الديني والحروب الداخلية، باعتبار أن أمريكا هي “القدس الجديدة” في وسط عالم من الأشرار. وبالنتيجة، أفضت هذه الإيديولوجية إلى تنامي الدور القيادي العالمي للأمريكيين الذين نظروا دائماً إلى واجبهم التاريخي بأنه حماية “الخير” (الديمقراطية وحقوق الإنسان..) من “الشر”.
يرى موللر أن العالم يمتلك جدولاً كبيراً من النظريات الشبيهة بـ”نحن” ضد “هم” أو نموذج هنتنغتون: “الغرب ضد بقية العالم”، ومن ذلك الأصولية والداروينية الاجتماعية والماركسية اللينينة والواقعية.. الخ، والتي تمارس جميعها فضيلة “التوفير” على حساب الحقيقة، إنها مبسطة ومغلوطة، وتطبيقها يبدأ ظاهريا بمبادئ مقنعة حصيفة، وينتهي بسباق التسلح والحرب والمجازر، والحال إننا لسنا بحاجة إلى مثل هذا النوع من النظريات.
الملاحظ في ثنايا الكتاب، وبالرغم من سيادة خطاب يحوم حول نزعة “المركزية الغربية” في شقها الأوروبي تحديداً، فإنا نطلع على صفحات وإشارات واضحة في النقد الذاتي للعقل الثقافي الغربي عموماً، ناهيك عن العقل السياسي الغربي. ونسرد ضمن هذه النماذج الصريحة في النقد الذاتي، تأكيد موللر مثلاً، على أن أُسُس الثقافة الغربية تبقى مُعَرَّضَة للخطر، ولا طريق يمر بهذا الإدراك، وعليه فإن النقد المُوَجَّهُ للغرب من قبل آسيا والعالم الإسلامي ليس ببساطة تفريغاً ساخراً لتطلعات السيطرة المقنّعة، بل إنه يضع الإصبع على جرح حقيقي، بصرف النظر عن دوافعه. وطبيعي، يضيف الكاتب، أن هذا الجرح لا يمكن شفاؤه بالأصولية الدينية أو استبدادية الدولة، وكون الأزمة التي يرى النقد الإسلامي والأسيوي وجودها في الغرب هي حقيقية، من منطلق أن المجتمعات الغربية تنزع نحو التخلي عن التكافل، وصورة الإنسان في التنوير والمسيحية الحديثة التي يقف في مركزها فرد موهوب ذو كرامة غير قابلة للتصرف، مهددة بالتحطم.
ومنها أيضاً الإقرار بأن “الثقافة الغربية ليست كاملة ولا هي خالية من الأزمات، كما أنها لم تجد الأجوبة على تحديات العصر الراهن”، أو كون “الغرب لا يمتلك الوصفة التي تجيب عن التحديات الراهنة، وإن التاريخ لم يصل إلى نهايته”، أو أن “البشرية لم تعثر ـ بعدُ ـ على نقطة السكون في النظام الغربي”.
وفيما يتعلق بموقعنا نحن هنا في المنطقة العربية، فيعتقد هارالد موللر أن ما نحتاجه هو “نجاح في التحديث وهذا ما يمكن إحرازه فقط ضمن ظروفه معتدلة لأن الاستعداد متوفر لذلك. والإمكانات المتنوعة لتأويل الأسس الإسلامية تتيح الفرص لمثل هذا التحديث السياسي”، موجهاً رسالة إلى صناع القرار في الغرب والعالم بأسره، تفيد أن لهم “مصالح قوية في هذا النجاح، وسيكون من المؤسف أن تعيق الأحكام المسبقة والأطماع الاقتصادية وأطماع السياسة، تحقيق هذه المصالح”. وأول شيء يتوجب على الغرب القيام به هو “دعم تضامني نقدي بتلك الدول التي تبذل جهوداً في تحديث المجتمعات الإسلامية، وفي غرس مبادئ من الثقافة السياسية الغربية مهما كانت غير متصفة بالكمال”.