إسلاميات… “اليسار الإسلامي” في نسخته الفرنسية (2/3)
بقلم ✍️ منتصر حمادة
توقفنا في الجزء الأول من هذه المقالة عند ظاهرة “اليسار الإسلامي” في نسخته الفرنسية، مع تعريف والشرح، كما توقفنا عند بعض الرموز المحسوبة على الظاهرة، ومنها ألان غريش وإدوي بلنيل وفرانسوا بورغا.
نعاين خلال العقد الأخير، أنه بسبب ارتفاع أسهم التيار، وخاصة بعد منعطف اعتداءات شارلي إيبدو المؤرخة في 7 يناير 2015، لم يقتصر الأمر على انخراط بعض المنابر الإعلامية في تسليط الضوء عليه، وإنما وصل إلى محطتين اعتبرتا سابقتان في الساحة:
ــ جاءت المحطة الأولى مع نشر مجلة فكرية، وهي مجلة “العالمان” ملفاً حول الظاهرة، ويُعتبر سابقة بحثية في الساحة الفرنسية، بأن تخصص مجلة فكرية ملفاً خاصاً حول الظاهرة [2018]، وتضمن مجموعة مواد تسع مساهمات، بما فيها مساهمات أسماء فلسفية، يتقدمها المفكر ميشيل أنفريه، الذي شارك بمقالة حول مواقف إدوي بلنيل، أو مشاركة المفكر الليبرالي ألان مينك، الذي اشتغل على قراءة مواقف الفاعل نفسه، أي بلينل، مع افتتاحية كانت واضحة في طرح أسئلة مباشرة حول الظاهرة، وجاءت صيغتها كالتالي: “من أين جاء “اليسار الإسلامي”؟ “ما هي جذوره التاريخية؟”، “كيف نفسر أن يكون هذا التيار السياسي الذي يبقى أقلية، والمجسد في يسار راديكالي، متواضع التمثيلية، مؤثراً إلى هذه الدرجة في الحياة الثقافية والجامعية، والمجتمع والإعلام؟”.
وتميز الملف بمشاركة باحث يُصنف في خانة “اليسار الإسلامي”، ويتعلق الأمر برفائيل ليوجيه، والذي شارك بمقالة من باب دفع هذه التهمة، موجهاً الدعوة إلى باقي المشاركين في الملف إلى الانتصار لقيم حقوق الإنسان والحرية الحقيقية وقانون 1905 الذي يؤطر العلاقة بين الدين والسياسة في فرنسا، ومما تضمنته الدراسة، وقفات عند بعض القواسم المشتركة بين المرجعية الإخوانية والمرجعية اليسارية، محلياً وإقليمياً، مع مقارنة خطاب سيد قطب ومالكوم إكس والخميني ومدرسة فرانكفورت وميشيل فوكو الذي تورط في الدعاية للثورة الإيرانية قبل تراجعه لاحقاً، ضمن أمثلة أخرى.
ــ وجاءت المحطة الثانية عبر ضجة سياسية تسببت فيها وزيرة التعليم العالي في فرنسا، فريديريك فيدال، عندما حذرت في إحدى المقابلات التلفزيونية مع فضائية “سي نيوز”، مؤرخة في 14 فبراير 2021، من انتشار “اليسار الإسلامي” في المؤسسات الأكاديمية الفرنسية، مضيفة أن “اليسار الإسلامي ينخر مجتمعنا بأكمله، والجامعات ليست محصّنة، وهي جزء من المجتمع”، وقد قوبل هذا التصريح بجدل سياسي وإعلامي وبحثي في آن، وعرف انخراط العديد من الأسماء الفرنسية، من عدة مرجعيات، مع أن هذا التصريح لم يكن الأول في الساحة الفرنسية خلال السنين الأخيرة، حيث اتضح أن في الشهر نفسه الذي تحدث فيه الرئيس الفرنسي عن “الانفصالية الإسلاموية”، في إحالة على المعضلة الإسلامية الحركية بالتحديد، وليس إحالة على المسلمين، حذر وزير التربية، جان ميشيل بلانكيه، في 22 أكتوبر 2020، من أن “الإسلام اليساري يثير الفوضى في المؤسسات الأكاديمية الفرنسية”.
تسبب هذه التصريحات في صدور تفاعلات متباينة في الساحة البحثية، وإذا كانت الأقلام المعنية بالتصريح اعترضت على هذه الاتهامات، إلا أن الأمر وصل إلى دخول فاعلين جامعيين، لا علاقة لهم بالمشروع؛ أما بالنسبة لدائرة صناعة القرار الفرنسي، فقد أخذت مسافة من الخوض في الموضوع، وكانت إحدى علامات ذلك، رفض الرئيس الفرنسي الإدلاء بأي تعليق حول الموضوع، لأنه يهم المؤسسة البحثية، التي تعج بتيارات ومدارس، إضافة إلى أن هذا التيار، يبقى أقلية بحثية بشكل عام، ولا يتجاوز تأثيره المجال البحثي، أو تأييد الإسلاموية، محلياً وإقليمياً، في مواجهة التيار البحثي الناقد لها، وهذا موقف يقوض القراءة النقدية الصادرة عن بعض الرموز الإخوانية، ومنها ما صدر عن الداعية مروان محمد، رئيس “التجمع المناهض للإسلاموفوبيا في فرنسا”، والذي نشر مقال رأي في موقع غربي محسوب على المشروع التركي والمشروع الإخواني، تحت عنوان “فرنسا: الجدل حول اليسار الإسلامي يكشف إلى أي حد يمكن أن يسقط نظام ماكرون” [22 فبراير 2021]، لأن هذا النظام، سوءا تعلق الأمر بمؤسسة رئاسة الدولة، أو مؤسسة رئاسة الحكومة، أخذت مسافة من هذا النقاش الذي أثير في أوساط الباحثين والإعلاميين، إلى درجة صدور عريضة تدعو إلى استقالة الوزيرة المعنية، وانقسام النخبة البحثية حول طبيعة وحقيقة التيار، إضافة إلى العديد من القنوات العمومية، أخذت مسافة أيضاً أثناء تناولها للموضوع، وعندما أجرت حوارات متعددة الضيوف مع باحثين للخوض في الموضوع، كان الاتجاه متبايناً في التفاعل، بين مؤيد ومعارض، بل وصل الأمر إلى صدور بلاغ رسمي عن المعهد الوطني للأبحاث الجامعية، والذي كلفته وزيرة التعليم العالي بإنجاز بحث شامل حول الظاهرة، خلص إلى أن الأمر “لا يتعلق بواقع علمي” [17 فبراير 2017]، وأن “المعهد مستعد لمزيد إضاءات بحثية في إطار تفعيل مهامه القائمة على إنجاز أبحاث والابتكار تروم الإضاءة العلمية للمجالات البحثية المعينة”، وواضح أننا إزاء تفاعلات لا علاقة لها قط بالتضليل الذي جاء في عنوان الباحث الإخواني.
بخصوص اتجاهات هذا اليسار الإسلاموي، فيمكن حصرها في تيارين اثنين:
ــ اتجاه منصف في تفاعله مع قضايا الإسلام والمسلمين بالدرجة الأولى، وإن تطرق بين الفينة والأخرى للإسلاموية، فمن باب نقدي، ولكن الأصل أنه يركز بالدرجة على قضايا الإسلام والمسلمين، من منظور ينتصر للإنصاف ويبتعد عن الاختزال والشيطنة، ويمثل هذا الاتجاه استمرارية للمدرسة الاستشراقية الفرنسية التي اشتغلت بإنصاف على قضايا المنطقة العربية والإسلامية، والتي خرجت عن القراءات الاستشراقية العدائية للتراث العربي والإسلامي، سواء كانت في الساحة الفرنسية ذاتها أو في الساحة الأوربية والغربية، ونجد في هذا الاتجاه مجموعة أسماء، من قبيل رفائيل ليوجيه سالف الذكر، أو باسكال بلانشار، المؤرخ المتخصص في قضايا الاستعمار والهجرة إلى فرنسا، ومؤلف أعمال مرجعية تصنف في خانة أدبيات ما بعد الاستعمار، منها كتاب “الشرخ الاستعماري: المجتمع الفرنسي حسب موروثات استعمارية” [2005]، أو كتابه “جنس، سلالة ومستعمرات” [2018]، ونجد أيضاً إيمانويل طود، الذي اشتهر في الساحة الإسلامية الفرنسية، بتبني قراءة مغايرة لأغلب القراءات التي تفاعلت بحثياً مع اعتداءات شارلي إيبدو، من خلال كتابه “من يكون شارلي” [2015]، والمحلل الاستراتيجي باسكال بونيفاس.
ــ ومقابل هذا الاتجاه، نجد عدة أسماء تنتمي إلى اتجاه يثير القلاقل الأمنية والبحثية، بمقتض تحالفه مع الحركات الإسلامية، وخاصة الحركات الإخوانية، وهو المعني أكثر بالحديث عن “اليسار الإسلامي” في الساحة الفرنسية، بل إنه المعني بنقد الظاهرة من طرف بعض الأصوات اليمينية واليسارية على حد سواء، ونجد ضمن هذا الاتجاه الثنائي إدوي بلنيل وفرانسوا بورغا، لهذا لا يمكن أن نعاين صدور انتقادات عن هذه الأسماء موجهة ضد الحركات الإسلامية، تحت مسمى “الحق في الاختلاف”، وهذا موقف سلبي يصب في مصلحة الإسلاموية، ولكنه يثير حساسيات فرنسية، كما يثير الحساسيات النقدية نفسها في الساحة العربية، وبالتحديد، لدى جميع الأصوات البحثية والإعلامية المعنية بالتصدي للمشروع الإسلاموي، وليس صدفة أن الأقلام الإسلاموية، وخاصة الأقلام الإخوانية، تحتفي بهذه الأسماء مادمت تساهم في ترويج مشروعها في عقر الساحة الفرنسية.
هناك خيط دقيق بين التيارين، صعب الإمساك به، وتساهم هذه الصعوبة في تكريس التماهي بينهما من جهة، كما تساهم في خدمة المشروع الإسلاموي الذي ينتقد أو يُشيطن نقاد التيار الثاني بالتحديد، وليس صدفة أن نعاين قراءات تحذر من عدم الحسم في معالم هذا الخيط الدقيق، وبالتالي تكريس ذلك التماهي والخلط، منها ما أشار إليه عالم الاجتماع ميشيل فيفيوركا، الذي يُفرق بين “اليسار الإسلامي” واليسار الإسلاموي” [أنظر نص الحوار على موقع “يوتيوب” الذي أجراه المحلل السياسي باسكال بونيفاس مع عالم الاجتماع ميشيل فيفيوركا، في موضوع العلوم الإنسانية واليسار الإسلامي، على هامش تصريحات وزيرة التعليم العالي، ومؤرخ في 19 ماي 2021)]
ومنها أيضاً ما جاء في إحدى المتابعات الإعلامية صدرت في صحيفة فرنسية دينية، والتي ذهبت إلى أن “أغلبية النقاد الذين يتحدثون عن »اليسار الإسلامي« يقصدون بلا شك، نقد الإسلاموية القادمة من الإسلام، وفي هذه الحالة، عليهم الحديث عن »اليسار الإسلاموي«” [صحيفة “لاكروا”، 25 أكتوبر 2020].