إسلاميات… تجارب الإسلاميين السابقين في قراءة الإسلاموية (1/3)
بقلم ✍️ منتصر حمادة
هناك حيرة كبيرة تواجهها المؤسسات المعنية بالتصدي للقلاقل الصادرة عن الإسلاموية في الساحة الفرنسية، وخاصة الإسلاموية المنخرطة في الهواجس السياسية، أي التيار الإخواني، موازاة مع الإسلاموية المصنفة في الخانة الجهادية، سواء تعلق بالأمر بحالات تهم خلايا تكشف عن نفسها بين الفينة والأخرى، كما عاينا خلال العقد الأخير، على قلتها، أو تعلق الأمر بحالات تصنف في خانة “الذئاب المنفردة”، والتي تتميز بارتفاع أسهمها في الساحة الفرنسية، بإقرار بعض الخبراء المتتبعين عن قرب للظاهرة.
ومما يؤكد هذه الحيرة، تباين القراءات البحثية المخصصة للظاهرة، فالأحرى المتابعات الإعلامية، ويكفي تأمل التباين الكبير في قراءة الظاهرة الجهادية بين تيار أوليفيه روا من جهة، وتيار جيل كيبل من جهة ثانية، مع الإشارة إلى أن كل تيار ضم باحثين آخرين، دون الحديث عن قراءات باقي الفاعلين من مرجعية عربية، مغاربية على الخصوص، من الذين شرعوا منذ عقد تقريباً في الاشتغال البحثي على الظاهرة الإسلاموية بشكل عام، وخاصة تفرعاتها السلفية والإخوانية والجهادية.
في هذا السياق، نجد باباً نوعياً في مقاربة الظاهرة بشكل نوعي، ومغاير كلياً مقارنة مع المقاربات أعلاه، بما في ذلك المقاربات الصادرة عن صناع القرار، أو عن الباحثين المقربين من دائرة صناعة القرار، فالأحرى الباحثين الذين ينهلون من إيديولوجيات الساحة، اليمينية (ألكسندر دير فال، كارولين فوريست،.. إلخ) واليسارية (فانسان جيسير، فرانسوا بورغا.. إلخ)، والإلحادية (ميشيل أنفريه، أندريه كونت سبونفيل.. إلخ) وغيرها.
مما يُميز هذه المقاربة، أنها صادرة عن باحثين أو فاعلين كانوا في حقبة زمنية ما، من أتباع الإسلاموية، ولكنهم انخرطوا في مراجعات نظرية، جعلتهم يعلنون الطلاق، النظري والتنظيمي الصريح، وليس إعلان الطلاق التنظيمي مع الإبقاء على الولاء الإيديولوجي أو التأثر المستمر بالخطاب الإيديولوجي للإسلاموية المعنية، كما نعاين مع عدة نماذج لقياديات إخوانية، من قبيل حالة القيادي رشيد لحلو، إخواني فرنسي من أصل مغربي، ابتعد عن التنظيم، ولكنه لا يستشهد في معرض تأصيل مواقفه الدينية إلا بالمراجع الإخوانية (حسن الترابي، راشد الغنوشي.. إلخ)، أو حالة القيادي طارق أوبرو، الذي يُعتبر أحد الرموز الإخوانية في الساحة الفرنسية، ولكن مواقفه اتجاه المشروع ليست بالصيغة التي تفيد أنه طلق المشروع نظرياً على الخصوص، لأنه لم يعد محسوباً تنظيمياً على المشروع، ضمن أسماء أخرى، وهذه ظاهرة نعاينها هنا في المغرب والمنطقة، مع العديد من النماذج، أقلها حالة ما كان يُصطلح عليه بـ”تيار أكادير” الإخواني، حيث اتضح لاحقاً، عودة بعض أعضاء التيار للمشروع، لأن الطلاق المعلن عنه في حقبة ما عند المعنيين بالعودة، لم يكن طلاقاً نظرياً صريحاً، وإن كان تنظيمياً.
ميزة هذه المقاربة، أن أصحابها يتحدثون عن المشروع انطلاقاً من الداخل، لأنهم مروا من تجربة ميدانية، اختلط فيها الولاء الإيديولوجي بالانتماء التنظيمي، بكل التبعات المصاحبة لهذه الثنائية في مرحلة الطلاق أو الانفصال، لأن هذه العملية، أي أخذ مسافة نظرية وتنظيمية، تستغرق وقتاً ليس هيناً حتى يتحرر المعني بها من آثار التجربة، وبشهادة أغلب من مرّ منها.
نتوقف هنا عند نموذجين اثنين، الأول يهم محمد لويزي، والثاني، يهم فريد عبد الكريم، وكلاهما قضى 15 سنة مع المشروع الإخواني.
اشتهر محمد لويزي بداية في الساحة الفرنسية مع صدور كتابه الذي يحمل عنوان “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين؟” [2016]، حيث يروي مساره الحركي مع المشروع الإخواني، سواء في مرحلة المراهقة بالمغرب، أو في مرحلة الشباب في فرنسا، وكان ممكناً أن يمر كتابه هذا مرور الكرام عند أتباع المشروع الإخواني في فرنسا، والذين، كنا عاينا في تجارب وحالات خاصة بالدول العربية، ينتصرون لخيار الصمت وصرف النظر عن مضامين الأعمال الصادرة عن أعضاء سابقين في المشروع، لأن الخوض في الردود والاعتراضات، من شأنه أن يُساهم في رواج هذه الأعمال التي لا تصب في صالح مشروعهم السياسي والديني والإيديولوجي، لولا أنه في حالة لويزي، ورغم الصمت والحصار الذي كان مصير كتابه مباشرة بعد صدروه، إلا أن حضوره في المنصات الإعلامية، سواء عبر التدوين النقدي، الموثق بالوقائع والأدلة ضمن طبيعة المشروع الإخواني في فرنسا، وكذلك نشره مقالات رأي ودراسات بالتوثيق ضد المشروع نفسه، جعل قيادات المشروع، تدخل معه في معارك قضائية، من باب إسكاته، وهذا ما فشلت فيه، بل تطور الأمر إلى أنه أصبح ضيفاً بين الفينة والأخرى على بعض المنابر الإعلامية، في سياق تسليط الضوء على الإسلاموية الإخوانية، في نسختها الفرنسية.
ومن نتائج ذلك، أننا نجد مجموعة من الروابط الرقمية الخاصة بعض محاضراته أو الحوارات التي أجربت معه، وميزتها أن تندرج في باب تبسيط التعريف بحقيقة هذه المشاريع للرأي العام، بشكل لا نجده في أغلب الدراسات والأبحاث، والتي غالباً ما تكون موجهة للنخبة البحثية والسياسية والإعلامية وغيرها، بينما الأمر مختلف مع هذه الروابط الرقمية التي غالباً ما تكون موجهة للرأي العام.
ضمن هذه المحاضرات، أو اللقاءات الحوارية، نذكر حلقة تطرق فيها محمد لويزي للمنعطف الذي على إثره سيُقرر الانفصال عن المشروع الإخواني، وكان مرتبطاً بتبعات دعوته للمفكر السوري خالص جلبي لكي يحاضر في مدينة ليل، في سياق تعريف جلبي بخيار اللاعنف، وهو الخيار الذي يدعو إليه أيضاً جودت سعيد وأسماء أخرى في المنطقة العربية، بما في ذلك الرموز الصوفية، لولا أن تلك المحاضرة، عرفت حضور أحد الرموز الإخوانية الفرنسية، ويتعلق الأمر بالداعية عمار لصفر، الذي دخل في صدام مع جلبي بخصوص الموقف من قضايا الآخر والعنف والسلام، حيث شرع لويزي في الاطلاع على الوجه لخطاب التيار الإخواني كلما تعلق بالأمر بالحديث عن “الوسطية” و”الاعتدال” و”فقه الأقليات” و”الأمة الوسط”، وهو خطاب موجه للاستهلاك الإعلامي والأمني.
من الحلقات الهامة أيضاً، تلك المخصص لمعضلة البيعة التي يؤديها أي عضو يُعلن الانضمام إلى المشروع الإخواني، وهذا أمر متداول في الساحة العربية، ولكن اتضح في قراءات وشهادات الأعضاء الذين انفصلوا عن المشروع الإخواني في الساحة الفرنسية، أن هذه البيعة، وطقوسها، ومفرداتها، قائمة حتى في الديار الفرنسية، وليس في الدول العربية وحسب، وقد أشار لويزي في هذه الحلقة إلى أن البيعة هنا تهم الولاء للتنظيم الدولي للإخوان، وليس للفرع الإخواني هناك في فرنسا، واسمه “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا”، لأن هذا الفرع، مجرد واجهة مؤسساتية للمشروع الإخواني الدولي.
هناك شهادات الهامة التي جاءت في مواقف لويزي بعد الانفصال عن المشروع الإخواني في نسخته الفرنسية، شهادة أشبه بوثيقة، لأنها تلخص مسار العمل الإسلامي الحركي طيلة أربعة عقود في الساحة الفرنسية، وهو مسار استغل سذاجة الجالية المسلمة، وإقبالها على العرض الديني الذي كان متوفراً في الساحة، دون أن تكون على علم بمرجعيته الإيديولوجية، وقد جاءت الوثيقة في صيغة مقالة مطولة، نشرتها مجلة فرنسية، نقتطف منها الفقرات التالية، لأهميتها الراهنة، حينها والآن أيضاً:
ــ “كان هناك تونسيون تكفيريون استفزوا نظام بورقيبة العلماني، وكان هناك مغاربة غادروا المملكة بعد اغتيال الاشتراكي عمر بنجلون، على يد إسلامي، وكان هناك أيضاً جزائريون وعراقيون وليبيون وأردنيون وسودانيون، جاؤوا إلى فرنسا، أرض اللجوء، ليس في جيوبهم شيء، وكل ما يملكونه حقيبة ملابسهم القديمة؛ لقد رحَّبنا بهم وأطعمناهم وأسكناهم وقُمنا بتبنيهم هنا! لقد ساعدناهم في إكمال دراستهم؛ قدمنا لهم بناتنا حتى يتمكنوا من إيجاد الاستقرار وتحقيق التوازن الأسري. لقد أصبحوا أبناء زوجاتنا، وآباء أحفادنا. كنا نتحدث الفرنسية بشكل متوسط للغاية؛ لكنهم كانوا متعلمين ومثقفين نسبياً، لقد مارسنا إسلاماً روحياً سلمياً، لكنهم سلحونا بإسلام آخر قائم على الهوية يدعي وينتصر. كنا على طريق الاندماج في المجتمع؛ لكنهم حولونا عن هذا الطريق من خلال ربطنا بأمتنا الإسلامية. اليوم أصبح هؤلاء الطلاب الإسلاميون الشباب الذين أخذنا بيدهم بالأمس المتحدثين باسمنا اليوم؛
دون تبرعاتنا، التي يتم خصمها في بعض الأحيان من ضرائبنا، لم يكن بوسع هؤلاء بناء مقراتهم السياسية: بنوها بالقرب من منازلنا، في وسط أحيائنا، وعلى أراضٍ بلدية قُمنا باحتلالها سابقاً، وذلك بفضل دعم بعض المسؤولين المنتخبين من اليسار واليمين الذين يحبون الفولكلور الشرقي وكعكنا المحشو بالعسل. لقد سمحت تلك الأموال التي جمعناها في ليالي رمضان وخطب الجمعة للإسلاميين ببنائها.
أمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا اللاتي لسن عضوات في جماعة الإخوان المسلمين، تحولن خلال ليالي رمضان في المساجد إلى كهوف علي بابا، يعرضن على الإخوان المسلمين ما يملكنه من الحلي الذهبية والفضية؛ لتمويل بناء هذه المقرات السياسية. أما نحن الرجال، فكنا نقدم تبرعات نقدية بعشرات الآلاف من اليوروهات من أنشطتنا غير المعلنة لمصلحة الضرائب، نوقع شيكات بعدة أصفار مهمة من مدخراتنا..
بشكل عام، مهما كان الحدث سعيداً أو حزيناً، حفل زفاف أو مراسم جنازة، كنا غالباً ما نلجأ إلى أئمة الإخوان المسلمين ليأتوا ويباركوا الحدث. وعندما تطاردنا الأسئلة اليومية العادية، فإننا نذهب إلى مراكز الفتاوى الخاصة بهم في فرنسا أو في الخارج، كنا نريد أن نلتزم برؤيتهم الأيديولوجية للإسلام؛ حتى لو كانت غير متوافقة مع فرنسا وقوانين الجمهورية، لقد كانت جماعة الإخوان المسلمين تفتح مدارس قرآنية ومؤسسات تعليمية خاصة أخرى بفضل كرمنا وتبرعاتنا المعتادة، وبمجرد افتتاح المدرسة نعهد إليها بتعليم أطفالنا الصغار؛
بعد قطع رأس المعلم صموئيل باتي، رحمه الله؛ لأنه لم يقبل التنازل عن مُثل الجمهورية، ما زال الإسلام السياسي الطرف الأكثر انخراطاً في المجال الديني، يقدم المسلمين كـ”ضحية” للاندماج، وساعدته بعض وسائل الإعلام في تقديم هذا الخطاب بشكل متحيز. إن الإسلاموية قائمة إلى يومنا هذا فقط لأن هذه الذريعة كانت تخدمها منذ أربعين عاماً”. (صدرت الوثيقة في مجلة “لوبوان”، عدد 5 نوفمبر 2020).