إسلاميات… تجارب الإسلاميين السابقين في قراءة الإسلاموية (3/3)
بقلم ✍️ منتصر حمادة
في سياق الاشتغال على ظاهرة الإسلاميين السابقين، وأهمية الظاهرة في قراءة الإسلاموية، توقفنا في حلقة أول أمس عند حالة محمد لويزي، مؤلف كتاب “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين”؟ [2016]، كما توقفنا في حلقة أمس عند حالة فريد عبد الكريم، ونخصص هذه الوقفة لاستعراض بعض الخلاصات، من وحي قراءة هذه التجارب وغيرها، وجاءت كالتالي:
أ ــ نلاحظ بداية أن مرحلة الانفصال عن المشروع الإخواني، تسبقها مرحلة عنوانها المرور من مرحلة الشك والنقد، والذي إذا زاد عن حده عن أتباع الإيديولوجيات، بما فيها الإيديولوجيات الدينية، من قبيل الإخوان والسلفية الوهابية والداعشية وغيرها، يُصبح مصير صاحبه الإكراه أو الطرد من التنظيم، إلا إن جاء قرار الانفصال تلقائياً دون الوصول إلى مرتبة الطرد، كما جرى في عدة حالات، منها الحالات المغربية مع فريد الأنصاري (صاحب “البيان الدعوي” و”الأخطاء الستة للحركات الإسلامية في المغرب” و”الفطرية”)، أو عمر العمر (صاحب “كنت إسلامياً”)، وأسماء أخرى.
في حالة فريد عبد الكريم، كانت مؤشرات انخراطه في النقد واضحة قبيل إعلان انفصاله عن إيديولوجية إخوان فرنسا، ومن تلك المؤشرات، ما جاء في كلمته على هامش مشاركته في أحد الأنشطة الإخوانية السنوية التي تنظم في فرنسا، ويتعلق الأمر بصالون لوبورجيه، نسخة 2004، والذي يُعتبر منذ عقود، “أهم حديث مجتمعي لمسلمي فرنسا” بتعبير الخبير غزافييه ترنسيان في كتابه “فرنسا المساجد” [2002]، حيث اعتبر حينها عن “ضرورة النقد الذاتي، لأن واقع المسلمين لا يسر”، منتقداً ما جرى مع تفاعل إسلاميي ومسلمي فرنسا مع قانون الحجاب حيث اتضح أنه الحديث عن “مظاهرات ضد قانون الحجاب، هناك من حدد دجنبر كموعد للتظاهر وهناك من حدد يناير وآخرون فبراير، وعند التظاهر تناول الكلمة رجال ولم نسمع المعنيات بالأمر”، مضيفاً أن هناك “مجهود كبير مطلوب من مسلمي فرنسا ليكونوا في المستوى”.
ب ــ نلاحظ أيضاً توصل هذه الحالات الأربعة إلى قناعة شخصية، ومفصلية، مفادها الفصل بين الإسلام والإسلاموية، وهذا فرق تصر أغلب الحركات الإسلامية على عدم الخوض فيه، لأن الاشتغال عليه، يُفضي إلى التعامل بنسبية مع مشروعها الديني الإيديولوجي، وليس التعامل معه باعتباره “نهاية التاريخ الإسلامي”، كما هو السائد مع قيادات وأتباع هذه الجماعات، أي عبر ترويج منطق فاسد في الاعتقاد، يجعلها لا تتوقف عند “التكفير النفسي” أو “التكفير الديني” للمجتمع والنظام والدولة وحسب، وإنما يصل الأمر إلى “التكفير الإيديولوجي” لباقي التنظيمات الإسلامية الحركية، بسبب وهم امتلاك الحقيقة، سواء كانت دينية أو سياسية أو غيرها، وهذا ما يؤكده فريد عبد الكريم نفسه، وغيره من المنشقين عن المشروع، حيث أشار في مداخلة له حول موضوع التطرف، نظمت بالمغرب أن أتباع الجماعة الإخوانية يعتقدون أنهم “وحدهم من يملك الحقيقة أما غيرهم فلا”، متوقفاً عند معضلة “تضخم مسألة تسييس الإسلام في الجماعة من أجل فرض نموذج معين، إضافة إلى ترسيخ فكرة المواجهة مع الجمهورية الفرنسية”، ونعاين تبعات هذا الوهم المرتبط بامتلاك الحقيقة بشكل جلّي في تعامل الحركات الإخوانية أو الحركات “الجهادية” مع بعضها البعض:
ـ في الحالة الإخوانية، يكفي تأمل تعامل إخوان المغرب فيما بينهم، من قبيل ما جاء به الدراسات الصادرة عن هذه الحركة أو تلك، حيث الأولوية لأتباع الحركة، قبل أي حركة أخرى منافسة، فالأحرى إعطاء الكلمة لأقلام تشتغل خارج المرجعية الإخوانية أساساً، ويكفي التذكير أيضاً بطبيعة تعامل هذه الحركات مع كل من سولت نفسه إعلان الانفصال عن المشروع، كما لو أنه انفصل عن الإسلام، بينما الأمر لا يتجاوز الانفصال عن الإسلاموية، وهي إيديولوجية دينية وليست ديناً؛
ــ أما في الحالة الجهادية، فيكفي التذكير بما جرى بين الحركات الإسلامية “الجهادية” بعد الحرب الأفغانية الأولى التي انتهت بخروج الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، أو التذكير بحالة “الجهاديين” التونسيين الذين اغتالوا القائد الأفغاني أحمد شاه مسعود، أو التذكير بما جرى بين الفصائل “الجهادية” في الساحة السورية على هامش اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة” في المنطقة بين 2011 و2013، حيث وصل الأمر إلى الاقتتال بين الفصائل “الجهادية” فيما بينها.
ومن المؤشرات الهامة التي تبرز دور هذا الوعي بخصوص التفرقة بين الإسلام والإسلاموية، وبالتالي تنزيه الإسلام عن هذه الإيديولوجيات التي لا تمثل إلا نفسها، أن نعاين إشارات في خطاب فريد عبد الكريم بأن انفصل عن الإسلام السياسي، أو عن الإسلاموية، أن عن مشروع حركة إسلامية، ولم ينفصل عن الإسلام، أي إنه ليس مرتداً، بل إنه وجد نفسه مراراً يتورط في شرح هذه الجزئية، ومرد ذلك التشويش الذي تسبب فيه الخطاب الإسلاموي للرأي العام، المسلم والغربي على حد سواء، فمن جهة، يعتقد العضو الإسلامي الحركي، أن انفصال أي عضو عن المشروع، لا يختلف عن انفصاله عن الإسلام، لأن هذا العضو يتوهم، انطلاقاً من التربية الحركية، على أن تدينه الإسلاموي الإيديولوجي هو الدين الإسلامي، بينما الأمر خلاف ذلك؛ ومن جهة ثانية، لا تُفرق نسبة من الرأي العام الإسلامي والغربي كثيراً في معنى أن تكون مسلماً، دون أي ولاءات إيديولوجية، لحركة دعوية أو سياسية أو قتالية، وبين أن تكون إسلامياً حركياً، أي منتمياً إلى حركة إسلامية، ولذلك كان فريد عبد الكريم، وحالات أخرى في فرنسا والمنطقة العربية، معنيون بالخوض في هذه التدقيقات المفصلية، والتي تبرز بعض القلاقل المرتبطة بتزييف الوعي الذي يجسده المشروع الإسلامي الحركي، والنموذج هنا مع المشروع الإخواني.
ج ــ مما يُلاحظ في مذكرات محمد لويزي وفريد عبد الكريم [كلاهما قضى 15 سنة في التنظيم الإخواني]، تأكيد إقدام قيادات المشروع الإخواني في فرنسا، على مرور أي عضو جديد، أعلن انضمامه إلى المشروع، عبر بوابة البيعة، كأننا إزاء تنظيم ديني طائفي، ولا نتحدث هنا عن بيعة قائمة عند إخوان المنطقة، في دول عربية ومسلمة، بل بتعلق الأمر ببيعة قائمة في دولة أوربية، توجد فيها الجالية المسلمة في مقام الأقلية، بمعنى أن العضو الإخواني، سيجد نفسه مضطراً إلى ممارسة التقية بشكل مزدوج مقارنة مع التقية التي يمارسها في دول المنطقة العربية، لأنها في الحالة العربية، تهم تقية ضد مجتمع مسلم في غالبتيه العظمى، بينما التقية الممارسة في الساحة الفرنسية، أو في الساحة الأوربية والغربية، تهم المجتمع الذي ينهل من مرجعيات دينية غير إسلامية من جهة، وتهم أيضاً الجالية المسلمة، لذلك، لا تكون عملية الانفصال عن المشروع الإخواني هينة في الساحة الغربية، ومنها الساحة الفرنسية، بسبب التأثيرات النفسية لهذه التربية الإخوانية غير السوية، تلك التي يتربى عليها العضو المعني بالانفصال عن المشروع.
د ــ من القواسم المشتركة في الأمثلة أعلاه، أهمية انفتاح أتباع الإسلاموية على أدبيات فكرية ودينية من خارج أدبيات المشروع الإسلامي الحركي الذي تنتمي إليه، وكلما اتسعت دائرة هذا الانفتاح، كلما ارتفعت مؤشرات التحرر من السياج الإيديولوجي الذي تكرسه الإسلاموية على عقول الأتباع، ولو توقفنا عند حالة محمد لويزي، على سبيل المثال لا الحصر، سنجد ضمن لائحة المراجع التي جاءت في كتابه، ما يُفيد أنها ساعدته في عملية التحرر من ذلك السياج الإيديولوجي، حيث نجد ضمن الأسماء في هذا السياق: الروائي البرازيلي باولو كويلهو، الباحث المغربي عبدو فيلالي أنصاري، المفكر الفرنسي رينيه جيرار، والذي اشتهر بأعماله حول ثنائية “العنف والمقدس”، الروائي الفرنسي من أصل لبناني أمين معلوف، المفكر التونسي عبد الوهاب المؤدب الذي أصبح ينهل من المرجعية الصوفية في آخر أعماله ومواقفه، الداعية جودت سعيد، أحد رموز تيار “اللاعنف” في مجالنا الإسلامي، ضمن أسماء أخرى.
هـ ــ وأخيراً، إن تأمل هذه التجارب الشخصية للأسماء الأربعة أعلاه، ضمن تجارب أخرى في الساحة، يُفيد أنها تتضمن عدة مفاتيح نظرية لقراءة الظاهرة الإسلاموية، وبالتالي امتلاك بعض الأدوات العملية للتفاعل معها ومواجهتها، على اعتبار أن الأمر يتعلق بتجارب تشتغل على قراءة الظاهرة من الداخل، وليس قراءتها من الخارج، كما هو الحال مع أغلب الإصدارات والدراسات والأبحاث والمتابعات الإعلامية والندوات والمؤتمرات التي تخصص للاشتغال على الحركات الإسلامية في الساحة الفرنسية، سواء الأمر بالمشروع الإخواني أو التيار السلفي أو الحالة الجهادية، بما في ذلك المؤتمرات التي تنظمها مؤسسات الدولة الفرنسية، والتي كانت تعد على رؤوس الأصابع قبل اعتداءات شارلي إيبدو، بينما يختلف الأمر بعد هذه الاعتداءات، إلى درجة أن تذهب وزارة الدفاع الفرنسية، وهي مؤسسة أمنية بالدرجة الأولى، إلى الإعلان عن مؤتمر في هذا السياق، بعنوان “الإسلام والحركات الإسلامية: مقاربات بديلة”، وواضح أن تنظيم مثل هذه المؤتمرات، تحت هذا العنوان، وتحت إشراف مؤسسة أمنية، كان أمراً خارج دائرة التفكير منذ عقد فقط، لولا أن تطورات الساحة، مع القلاقل التي تصدر عن المشروع الإسلاموي، أصبحت تتطلب ذلك، من باب تنوير الرأي الفرنسي، بما في ذلك تنوير الجالية المسلمة. [انعقد المؤتمر يوم الأربعاء 28 أبريل 2021، بمقر مركز الأبحاث التابع لمدرس سان سير، وتوزعت أشغال المؤتمر على أربع جلسات، بمشاركة باحثين فرنسيين ومغاربة وجاءت عناوين الجلسات كالتالي: الإسلام والحركات الإسلامية: أسئلة المنهج؛ رؤى في القراءات البحثية الفرنسية المخصصة للحركات الإسلامية؛ العنف، الإرهاب والجهادية؛ وأخيراً، الإسلام في فرنسا: حلول شاملة]
صحيح أن التجارب أعلاه، تبقى تجارب شخصية، ذاتية، أو فردية، إضافة إلى أن أصحابها كانوا في صلب المشروع الإسلاموي، في شقه الإخواني بالتحديد، وبالتالي من الصعب عليهم التحرر نهائياً من الآثار النفسية المرتبطة بسنوات الشحن الإيديولوجي الذي تعرضوا إليه في مرحلة الانتماء للمشروع، إلا أنه بالرغم من هذه الاعتراضات الوجيهة، تبقى مضامين أعمالهم وانتقاداتهم وملاحظاتهم، نوعية مقارنة مع أغلب ما يصدر في الساحة، والقادم عن أقلام تتحدث عن الظاهرة من الخارج، لأنه مهما أبدع متتبع الظاهرة، في عدته المنهجية ومرجعيته العلمية، فإن معضلة قراءة وتفكيك الظاهرة الإسلاموية، تقتضي الإمساك ببعض التفاصيل الثانوية التي يصعب على من لم يمر من التجربة، الظفر بها، وهنا بالذات، تكمن أهمية أغلب الإصدارات التي حررتها هذه الأسماء وغيرها، ويكفي تأمل دلالة صمت القيادات الإخوانية عن الخوض في الرد على تلك الإصدارات، وهي القيادات نفسها التي لا تتردد في التصدي الميداني والإعلامي والإلكتروني للعديد من الباحثين الفرنسيين الذين ينتقدون المشروع الإخواني من الخارج، وإن وصل الأمر إلى توجيه تهمة معاداة الإسلام [“الإسلاموفوبيا”]، بينما الأمر لا يعدو أن يكون نقداً للإسلاموية، وليس نقداً للإسلام، وبالرغم مم ذلك، تلتزم القيادات ذاتها الصمت عن الأعمال النقدية التي تصدر عن أهل الدار، لأنها انتقادات وجيهة ودقيقة ومفصلية في كشف حقيقة هذه الإسلاموية.