تزييف الوعي باسم الدين.. المشروع الإخواني (1/3)
منتصر حمادة
في التعامل مع المشروع الإخواني، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن الأمر يتعلق بمجرة إسلامية حركية، تشتغل على عدة جبهات، سياسية ودينية وثقافية وإعلامية وبحثية وغيرها، وأن مُجمل هذه المجالات، تصب في خدمة أهداف تلك المَجرة.
تتوقف هذه المقالة عند نموذج تطبيقي من تزييف باسم الدين، ذلك الذي يمارسه المشروع الإخواني في الساحة الفرنسية، وهو نموذج يتضمن عدة محددات تميز هذا المشروع، من قبيل الازدواجية والتقية والإصرار على التضليل.
يتعلق الأمر بحدث جرى في غضون 2017، على إعلان الفرع الفرنسي للتنظيم الدولي للإخوان، أو “المَجَرة القادمة من جماعة الإخوان المسلمين” بتعبير جيل كيبل، أي “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا”، عن تغيير الإسم نحو “اتحاد مسلمي فرنسا”، وكان ممكناً التغاضي عن هذه الواقعة، لو أن الإسم بقي منسجماً مع طبيعة المشروع، من قبيل الحديث عن منظمة إسلامية، جمعية إسلامية، منتظم إخواني، وأسماء من هذه الطينة، لولا أن الأمر مغاير هنا، من خلال اللجوء إلى توظيف المشترك الديني عند الجالية المسلمة، والحديث عن “اتحاد مسلمي فرنسا”، كما لو أن هذا الاتحاد يُمثل مسلمي فرنسا، بينما الأمر خلاف ذلك، لأنه مؤسسة دينية إيديولوجية، إخوانية بالتحديد، وبشهادة كل من يتابع المشهد الإسلامي هناك منذ عقود، سواء تعلق الأمر بالإدارة الفرنسية، وبالتحديد وزارة الداخلية، لأنها المشرفة على تدبير الشأن الديني، عبر مديرية تشتغل على ذلك، أو الباحثين أو الإعلاميين.
وبالتالي، لا يُفيد التلويح لهذا الإسم أو الشعار، أن الأمر يُمثل مسلمي فرنسا، بقدر ما يُمثل الفرع الفرنسي للمشروع الإخواني، مع فارق أن قيادة هذا الفرع، راهنت على تغيير هذا الإسم، من باب تكريس التضليل الذي يُميز هذا المشروع، كما هو سائد في المنطقة العربية، ضمن سمات أخرى، منها هاجس ممارسة الأستاذية على الجميع، محلياً وإقليمياً ودولياً، في أفق أقرب إلى الوهم عنوانه ممارسة الأستاذة على العالم، كما جاء في الأدبيات المؤسسة للمشروع.
صحيح أن خطاب “الأستاذية”، أقرب إلى الوهم أو الحلم، ولا علاقة له بالسنن التاريخية، لأنه لا أحد حقق هذه الأستاذية، ولا أحد يدعو إليها، إلا إن كان ضحية تزييف الوعي، باسم إيديولوجية اختزالية، لا تمثل إلا نفسها، بل إن لا نجد أي نبي أو رسول أو فيلسوف أو حكيم، اشتغل على “الأستاذية”، ولكن بالرغم من ذلك، اشتغل المشروع الإخواني على الترويج لهذه الأوهام منذ البدايات، وليس صدفة أن كل من يُراجع هذه الأدبيات، ينتهي به الأمر إلى ممارسة النقد الذاتي بداية قبل الابتعاد أو الانفصال عن المشروع لاحقاً.
من أجل اختبار هذه الازدواجية الإخوانية في التعامل مع مسلمي فرنسا والرأي العام الفرنسي معاً، سوف ننطلق من حدثين صدرا عن الفرع الفرنسي للمشروع الإخواني، ويتعلق الأمر بمقارنة بعض فعاليات معرض “لوبورجي”، في نسخة سنة 2017، وهي الدورة 34، مع النسخة الموالية لعام 2018، على اعتبار أنه في غضون 2017، سوف يتم الإعلان عن تغيير إسم الفرع الإخواني، وتزامن ذلك مع تنظيم الفرع لنسخة السنة ذاتها من معرض “لوبورجي”، والذي يعرف حضور نحو مائتي ألف زائر من فرنسا والدول الأوربية المجاورة، مع مشاركة أكثر من ستمائة عارض، وبما أن هذا المعرض، كان معروفاً باستقباله الرموز الدعوية والوعظية والبحثية الإخوانية، من المنطقة العربية على الخصوص، ومن الساحة الأوربية، من قبيل حضور ومشاركة يوسف القرضاوي، قبل منعه من دخول التراب الفرنسي، أو طارق رمضان أو أسماء أخرى، إضافة إلى احتضان المعرض لأجنحة تعرف ببعض الحركات الإسلامية في المنطقة، من قبيل الجماعة الأم في مصر، أي تنظيم “الإخوان المسلمين”، أو جماعة “العدل والإحسان”، وجماعات أخرى، فإنه تماشياً مع تغيير ذلك الإسم، نحو “اتحاد مسلمي فرنسا”، كان من المفترض أن نعاين في النسخة الموالية لهذا المعرض، أي في نسخة 2018، تطبيقاً عملياً لهذا التحول في الخطاب، والذي أفرز تغييراً لإسم الفرع الإخواني.
نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار ما صرّح به القيادي الإخواني الفرنسي، عمار الأصفر، وهو رئيس الفرع الفرنسي للمشروع، على هامش انعقاد نسخة 2017، حيث أكد أن “اختيار ملف النقاش لهذه السنة جاء انطلاقا من الآيات التي تتحدث عن [الذين آمنوا وعملوا الصالحات]”، ويقصد بذلك شعار المعرض لسنة 2017، وهو “مسلمو فرنسا، من الإيمان إلى المساهمة والعمل الصالح”، داعياً إلى “ضرورة ربط الإيمان بالعمل الصالح، وعدم الاقتصار فقط على العبادات الروحية، بل يجب الانخراط في المجتمع الفرنسي بإيجابية، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية” (صدرت المتابعة الإخبارية في موقع “الجزيرة. نت” بتاريخ 15 أبريل 2017).
من تصريحات المسؤول الإخواني في المتابعة الإخبارية ذاتها، نقرأ:
ــ “بعد 34 سنة من إنشاء اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، قد تقرر وبالإجماع تغيير الاسم ليصبح [مسلمو فرنسا]، لأننا سايرنا تطور الجالية الإسلامية في حضورها واندماجها وصرنا أبناء هذا البلد ولم نعد أجانب”؛
ــ “مع تغيير الاسم أصدرنا ميثاقاً جديداً عبر مراجعة شاملة للقوانين الداخلية للاتحاد على مستوى الخطاب والأهداف والأولويات، لأننا نعيش إكراهات وتحديات كبيرة تستلزم تجديد آليات عملنا والرد على المتربصين بنا”.
ــ تضمنت المتابعة الإخبارية التي جاءت عنوان “مسلمو فرنسا يفتتحون ملتقاهم قبيل الرئاسيات”، رأياً بخصوص “الحملة التي يشنها اليمين المحافظ واليمين المتطرف ضد “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا” التي اتهماها مراراً بالارتباط بجماعة الإخوان المسلمين وهددا بحلها”، حيث اعتبر نائب رئيس الفرع الفرنسي، بوبكر الحاج عمور أن هذه “الحملة تزداد حدتها كلما اقتربت الاستحقاقات الانتخابية، إضافة إلى مواقفهم المعادية للإسلام والمسلمين”.
من الصعب إحصاء عدد المتابعات الإعلامية، الصادرة عن المنابر الإعلامية الإخوانية أو المقربة من المشروع الإخواني، التي تروج مثل هذه التصريحات الغارقة في المغالطات والتضليل.
وعلى صعيد آخر، تزداد صعوبة الإحصاء، عندما نأخذ بعين الاعتبار تواضع وعي المتلقي بطبيعة المشروع من جهة، وبطبيعة الخط التحريري للمنابر الإعلامية الإخوانية أو المحسوبة على المرجعية الإخوانية، وهذه مؤشرات تصب بشكل أو بآخر، في تكريس تزييف الوعي وتكريس ترويج ونشر المغالطات المسيئة إلى المسلمين هنا وهناك.
وفي هذا السياق، ارتأينا التوقف عند نموذج تطبيقي، لعدة أهداف، نذكر منها ثلاثة على الأقل:
أ ــ الأول عنوانه المساهمة في تسليط الضوء على هذه المعضلة، أخذاً بعين الاعتبار تفشي ظاهرة تزييف الوعي باسم الدين، مع الخطاب الإخواني على الخصوص، والذي يوظف أدبيات التقية والازدواجية في تكريس ذلك التزييف.
ب ــ أما الغرض الثاني فمرده تسليط الضوء على إحدى تطبيقات خطاب التقية والتضليل السائد في خطاب هؤلاء، بالتقييم والنقد.
ج ــ وأخيراً، غرض ثالث لا يقل أهمية، مفاده أنه يمكن من خلال استخلاص الملاحظات المرتبطة به، تطبيقها على العديد من المتابعات الإعلامية والبحثية التي تصدر عن المشروع أو عن المنصات الإعلامية والبحثية المتحالفة معه، سواء كانت في القارة الأوربية أو في المنطقة العربية.
بعد هذا التدقيق، آن الأوان للتوقف عند بعض الملاحظات النقدية حول هذه الإشارات، والتي تمرر في وسائل الإعلام من باب تكريس المغالطات أو التضليل:
ــ نبدأ بعنوان المتابعة الإخبارية، والصادر في موقع إلكتروني محسوب على استراتيجي يحتضن المشروع الإخواني، حيث نقرأ في عنوان المادة الإخبارية أن الأمر يتعلق بـ”مسلمو فرنسا” الذين “يفتتحون ملتقاهم”، والحال أن الأمر يتعلق بإسلامي فرنسا بالتحديد الذين يفتتحون ملتقاهم، وإن كان الملتقى يعرف زيارة وحضور المسلمين والإسلاميين على حد سواء، ولكن بأهداف مختلفة، لأن المسلم في فرنسا، الذي لا علاقة له بأي مشروع إسلامي حركي، من قبيل المشروع الإخواني، غير معني بأن ضمن المحاضرين، فقط الأسماء الإسلامية الحركية أو أقلام “اليسار الإسلامي”.
ــ يُحيل شعار “مسلمو فرنسا، من الإيمان إلى المساهمة والعمل الصالح”، على نموذج تطبيقي يكشف جهل المشروع الإخواني بطبيعة تديّن الجالية المسلمة، والجهل بمقامات الإسلام والإيمان، إضافة إلى ما إنه يُكرس فكراً مشوهاً لما هو مفترض من المسلم الذي يُقيم في الدول الغربية، كما لو أن حضور المسلمين في فرنسا، ويمتد منذ حقبة الحرب العالمية الثانية، في مرحلة أولى، وبداية على الخصوص من مرحلة إعمار فرنسا بعد تلك الحرب، في مرحلة ثانية، كان بعيداً عن المساهمة في هذا الإعمار وعن العمل الصالح، إلا إن كان ما يصدر عن مسلمي فرنسا، في الغالب الأعم، من ممارسات ذات علاقة بالدين والاجتماع والثقافة، لا علاقة لها بالعمل الصالح من منظور المشروع الإخواني.
ــ نأتي لقراء وشرح رئيس المشروع لهذا الشعار، حيث وجه الدعوة إلى “ضرورة ربط الإيمان بالعمل الصالح، وعدم الاقتصار فقط على العبادات الروحية، بل يجب الانخراط في المجتمع الفرنسي بإيجابية، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية”، وسوف نترك جانباً النبرة الوعظية لهذا الخطاب، وهي نبرة متداولة عند المسلمين خاصة في مقام خطبة الجمعة، وبالتالي ما صدر في أرضية هذه النبرة، ليس أمراً جديداً على مسلمي فرنسا، لأنهم مسلمون، وليسو ملاحدة أو لا دينيين أو شيء من هذا القبيل.
ولكن حديث القيادي الإخواني نفسه عن “ضرورة ربط الإيمان بالعمل الصالح، وعدم الاقتصار فقط على العبادات الروحية”، يُزكي ما جاء في التفاعل أعلاه، من أن خطاب هؤلاء، يكشف عن جهل بالتقاليد الإسلامية عند مسلمي فرنسا، كما لو أن الممارسة الإسلامية هناك، نسبة إلى المسلمين، لا تعدو أن تكون ممارسة روحية، أو كما لو أن الأمر يتعلق، منخرطون في طرق صوفية، لا يخرج عملها عن الممارسة الروحية وحسب، وهذا مؤشر آخر من مؤشرات تزييف الوعي الصادر عن الخطاب الإخواني.
ــ والأمر نفسه مع الجزء الثاني من التصريح، وجاء فيه أنه على المسلمين في فرنسا “الانخراط في المجتمع الفرنسي بإيجابية، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية”، على أساس أنهم غير منخرطين فعلاً في المجتمع بإيجابية، والحال أن الأمر خلاف ذلك، بدليل إنه وصل خلال العقد الأخير على الخصوص، إلى ظهور نخبة فرنسية، حاضرة وفاعلة في عدة مجالات، سياسية واقتصادية وثقافية وفنية ورياضية وعلمية وغيرها، مع فارق أنها لا تزايد على المسلمين وغير المسلمين بإسلامها، ولا تتاجر بالقيم الإسلامية، ولا توظفها في صراعات وحسابات سياسية ودينية وإيديولوجية وغيرها، ولو أن القيادي الإخواني كان واعياً بهذا المعطى وحقيقته، ما كان ليتورط في الإدلاء بهذا الخطاب الزائف، إلا إن كان واعياً به، لكن يُمرر مغالطات، تكشف عن ازدواجية خطاب هؤلاء، وهي ازدواجية قائمة منذ عقود عند العديد من رموز المشروع.