إسلاميات.. مذكرات أحمد الحو والوجه الآخر للإسلاموية المغربية
منتصر حمادة
منذ حوالي عقد ونيف، في سنوات صدور صحيفة “التجديد” الناطقة باسم حركة “التوحيد والإصلاح” وحزب “العدالة والتنمية”، نشرت سلسلة حوارات مع قيادات إسلامية حركية، إخوانية في الغالب، وتم جمعها لاحقاً في كتب. وتمّ تنصيف تلك الحوارات، من منظور إيديولوجية الجريدة، كونها تؤرخ للعمل الإسلاموي في المغرب، وأخذاً بعين الاعتبار أن هذا العمل لا يمكن اختزاله في هذا المشروع الإخواني لوحده، فقد اتضح، كما كان متوقعاً، أن مضامين ورسائل تلك الحوارات، لا علاقة لها بالتأريخ إياه، بقدر ما تؤرخ لنسبة معنية من أداء هذا المشروع بالتحديد، إضافة إلى غياب الإنصاف، والصمت عن قضايا وملفات وقلاقل، وتبييض سيرة قيادات، وهذا متوقع، أخذاً بعين الاعتبار غلبة الهواجس الشخصية والمصلحية في المبادرة، ضمن اعتبارات أخرى، بما لها وما عليها.
ولهذا السبب، سبق أن أشرنا في مقالة سابقة، منذ سنوات مضت، إلى أن مجرد اشتغال باحث إسلامي من حركة إسلامية حول موضوع الحركة الإسلامية، يجعله محاطاً بعدة سياجات أو طابوهات في معرض الاشتغال على الجماعة التي ينتمي إليها، مقابل التحرر النسبي في معرض الاشتغال على حركات إسلامية أخرى، تنافس الجماعة على ما نصطلح عليه “النطق باسم الإسلام”؛ مثلاً، لن أن نستحضر ما الذي سيُحرره باحث إخواني، منخرط في الاشتغال على ملف جماعة الإخوان المسلمين، مقارنة مع ما سيُحرره باحث مسلم، لا علاقة له بالمشروع الإخواني، على الأقل، يمتلك هذا الأخير مساحة واسعة في التقييم والنقد والاعتراض. (وهذه بالمناسبة، مقارن مطلوب أن تؤخذ بعين الاعتبار، في معرض قراءة أداء العديد من المراكز البحثية المغربية والعربية، سوءا كانت إسلامية حركية أو محسوبة على هذا المشروع)
تأسيساً على ما سبق، تكمن أهمية الكتاب الجديد الذي ألفه الناشط الحقوقي، والفاعل الإسلامي الحركي سابقاً، أحمد الحو، وهو أحد مؤسسي “المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف” وعضو مكتبه التنفيذي، وموظف سابق في المجلس الوطني لحقوق الإنسان (قبل طرق باب مرحلة التقاعد)، حيث كان مكلفاً بمعالجة الشكايات ثم مسؤولا عن تدبير الشؤون اللوجيستيكية، ومكلف بمهمة لدى الأمانة العامة للمجلس.
الحديث عن كتابه الذي يحمل عنوان “عائد من المشرحة”، وصدر عن دار الوطن (الرباط، ط 1، وجاء العمل في 233 صفحة)، كما قدم له عبد النبي الشراط، مدير المؤسسة، والمحجوب الهيبة، ومحمد السكتاوي، وقد جاء الكتاب موزعاً على مقدمة وعشرة فصول: قبل الاعتقال، بدأ حملة الاعتقال، الاستضافة وإكرام الوفادة بدار الحجاج، الانتقال إلى مقبرة مقاومة كريان سنطرال، محاكمة مجموعة 71، الرحلة نحو ألكاتراز المغرب، الانتقال إلى سجن عكاشة، وأخيرا انفتح الباب الكبير للسجن، عود على بدء، وماذا بعد؟
قضى المؤلف تجربة سجني امتدت إلى 15 سنة [بين 1983 و1998]، باعتباره معتقلاً سياسياً محكوم عليه بالإعدام، قبل الإفراج عنه لاحقاً، والتفرغ للعمل الحقوقي، سواء عبر البوابة الإعلامية، من خلال صحيفة “النبأ” التي توقفت عن الصدور (وهي لسان مشروع “الحركة من أجل الأمة”)، أو عبر المساهمة في بلورة تصور “هيئة الإنصاف والمصالحة” في قضايا جبر الضرر الخاص بالعقود الماضية، وكان المؤلف أحد مؤسسي “منتدى الكرامة لحقوق الإنسان”، أول جمعية حقوقية أسسها إسلاميون مغاربة، قبل أن تصبح لاحقاً، مجرد جمعية حقوقية، تابعة لمشروع حركة “التوحيد والإصلاح” وحزب “العدالة والتنمية”، بعد مشاركة قياديين وحقوقيين، في الانقلاب على مشروع الجمعية، التي تميزت بنواة تأسيسية، شاركت فيها مجموعة من الفعاليات الحقوقية الإسلامية الحركية، من عدوة حركات، لولا هاجس الهيمنة والإقصاء، الذي أفضى إلى ما أصبحت عليه الجمعية.
هذه المعطيات متداولة في الكواليس الحقوقية عند الحركات الإسلامية، ولكنها لم تكن تصدر للعلن، وهنا بالذات، تكمن أهمية هذا العمل، وهنا بالذات أيضاً، تكمن أهمية استحضار ما أشرنا إليه أعلاه، من أن التأريخ للعمل الإسلامي الحركي، لم يُحرر بعد، وأن الباحثين والكتاب والإعلاميين الذين ما زالوا ينتمون إلى هذه المشاريع، غير مؤهلين للاشتغال على الموضوع، بينما يختلف الأمر مع الفاعلين الذين ينفصلون عن هذه المشاريع، لأنهم يتوفرون على مساحة حرية أكبر، لا نجدها عند الأعضاء الذين يخضعون لقوانين السياج الإيديولوجي الممارس باسم الدين، والدين براء من هذه التوظيفات.
سبق لمؤلف الكتاب، أن مرّ من عدة تجارب دينية، بما فيها التجربة الصوفية، قبل ولوج التجربة الإخوانية مع الشبيبة الإسلامية، أو تجارب إسلامية حركية أخرى، وبما أنه أخذ مسافة نهاية من هذه التجارب، مع حفاظه على خطاب الود والتقدير، لكي يتورط في قلة أدب في معرض النقد، فقد ألف كتابه هذا بأفق نقدي صريح ومسؤول، وتتضح معالم ذلك النقد وتلك الصراحة في عدة مقامات من الكتاب، من قبيل ما جاء في القلاقل المسكوت عنها بخصوص مصير “منتدى الكرامة” (ابتداءً من الصفحة 186)، وهي معطيات لا تتحدث فيها قط مجموعة من الأسماء البحثية والإعلامية التي تنتمي إلى المجرة سالفة الذكر (مجرة الحركة والحزب)، بما في ذلك الأسماء التي تزايد على الرأي العام في قضايا حقوق الإنسان، أو التي استفادت من التجربة والارتباطات الشخصية والعلاقات من أجل الارتقاء الاجتماعي والظفر بمناصب وما جاور ذلك.
ومن مؤشرات الصراحة في تناول تاريخ الحركات الإسلامية، توقف المؤلف عند قضية، لا نجد لها أي أثر في سلسلة الحوارات التي تحدثنا عنها أعلاه، والصادرة في صحيفة “التجديد”، والحديث عن الرسالة الشهيرة التي أرسلها يوماً القيادي عبد الإله بنكيران، إلى وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، معرباً حينها عن رغبته في لقاء الوزير، والتعاون معه من أجل التصدي للمشروع اليساري، وقضايا أخرى (جاء الوثيقة بالصورة في الصفحة 86 من الكتاب).
للتذكير فقط، بنكيران الذي أرسل تلك الرسالة، قبل أحداث “الفوضى الخلاقة” [2011 ــ 2013]، هو بنكيران نفسه، الذي أصبح يزايد على الدولة في عدة قضايا لاحقاً، في إطار الفورة الإخوانية التي مرت منها المنطقة، دون الحديث عما قامت به العديد من الكتائب الإلكترونية التابعة للمجرة نفسها، أو التابعة للمجرة الإسلامية الحركية الثانية، أي مجرة جماعة “العدل والإحسان”، لولا أن هؤلاء، غاب عنهم، أن للبيت ربّ يحميه، من أوهام المشروع الإسلامي الحركي في المغرب والمنطقة.
هذا غيض من فيض الكتاب، بل إن أهمية بعض الشهادات والوقائع، من قبيل علاقة رئيس الحكومة السابق نفسه بأحد رجال الأمن، قبل تحولات إدماج المجرة الإخوانية في العمل السياسي والحزبي، تطورت إلى صدور تصريحات ومواقف عن المعنيين، وهم الذين التزموا الصمت طيلة هذه المدة، بسبب حساسية الموضوع، ومن باب تحصيل حاصل، أن تغيب هذه المعطيات أيضاً في سلسلة الحوارات سالفة الذكر.
كما كان متوقعاً في التعامل مع هذه الإصدارات، وأخذاً بعين الاعتبار تعدد مداخل التفاعل معها، لم يسلم العمل من القراءة الإيديولوجية، أو التوظيف في سياق تصفية الحسابات، بما في ذلك تصفية الحسابات السياسية ضد الدولة، والنموذج هنا مع مقالة للباحث المعطي منجب، وأحد الذين كانوا يراهنون في زمن ما، على تقلدي ما قام سعد الدين إبراهيم في مصر، وهو مؤلف كتاب بعنوان حوارات بين الإسلاميين والعلمانيين، حيث نشر مقالة في صحيفة “القدس العربي” اللندنية، حيث غلب على المقالة هاجس نقد السلطة في المغرب، ومنه هاجس تصفية الحسابات، مع أن المعني هنا للتذكير، متابع في ملف قضائي، على خلفية غسيل أموال، ولم يجد محرر المقالة أدنى حرج في التباهي بأن “الحق يقال، أحمد الحو كان من السباقين بين الشباب الثوري ــ الإسلامي أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات إلى محاولة العمل ضد النظام يداً في يد مع مناضلي اليسار”، وهذه إشارة متوقعة من أتباع هذه العقلية.
كتاب ننصح به، لأهمية في تناول العديد من قضايا الساحة، سواء كانت مرتبطة بالإشارة الخاصة بهذه المقالة، أي التأريخ للعمل الإسلامي الحركي في المغرب، المكاسب التي يظفر بها متدين الذي يتحرر من السياج الإيديولوجي الحركي (إخواني، سلفي، جهادي.. إلخ)، الاشتغال على قضايا “ما بعد الطرقية”، الوجه الآخر للإسلاموية المغربية، ضمن قضايا أخرى، ولذلك يستحق العمل عدة وقفات.