الاتجار بالدين في ميزان البحث العلمي والرأي العام
منتصر حمادة
منذ عقدين تقريباً، كان مصطلح الاتجار بالدين متداولاً في بعض المنابر الإعلامية المغربية، وعلى استحياء، بعد أن كان متداولاً في مرحلة سابقة في الساحة المصرية، في سياق صراعات بين تيارات يسارية وإسلامية حركية، من سلفية وهابية وإخوان و”جهاديين” وغيرهم.
إحدى أسباب تواضع تداول المصطلح هنا في المغرب مثلاً، أن ترويجه كان أشبه بنكتة أو قلة أدب أو اتهام لا يليق بالنقد والاعتراض، إن لم يكن أقرب إلى توزيع صكوك الغفران. وبالتالي، كانت أغلب الأقلام النقدية التي تتحدث عنه، تواجه باتهامات من هذه الطينة، بما فيها الاتهام بالعداء للدين، على أساس أن أي تديّن ما، هو الدين، وهذا محال، لأنه لا يمكن اعتبار حركة إسلامية مثلاً، أو حزب “إسلامي” أو طريقة صوفية أو تيار سلفي وهابي.. إلخ، ناطقاً باسم مليار ونصف من المسلمين، بقدر ما يمثلون أنفسهم، أولاً وأخيراً.
هكذا كان الحال في الساحة المغربية على الأقل قبل اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة” [2011 ــ 2013]، إلى أن جاءت هذه التحولات التي نعاينها في المغرب والمنطقة، ولا نتحدث عن تحولات تهم المجال السياسي والاقتصادي وحسب، من منطلق ثقلهما في أحداث الساحة، موازاة مع ثقل المحددات الاستراتيجية والإقليمية وغيرها، ولكن الحديث يهم الخطاب الديني أيضاً، بالصيغة التي نعاينها، على سبيل المثال لا الحصر، مع رسائل أو إشارات الاستجوابات التي تعرضت لها مؤخراً بعض الرموز السلفية الوهابية في مصر، من قبيل أبو إسحق الحويني، منذ أسابيع، أو محمد حسان، منذ أيام.
ما يهمنا نحن في الساحة المغربية، هو التوقف عند معضلة الاتجار بالدين، قبل وبعد أحداث فبراير 2011، أي النسخة المغربية من أحداث “الفوضى الخلاقة”، والتي كشفت حقيقية العديد من أدعياء الخطاب الديني والسياسي وغيره (هل نحن في حاجة إلى التذكير، بأنه في عز أجواء 20 فبراير، لم يتردد قياديون من حزب “العدالة والتنمية” في رفع لافتة تطالب بإسقاط بعض رموز السلطة، مع أنهم يشتغلون في عقر المؤسسة التشريعية، ومنهم من يستفيد من الريع الحزبي والسياسي، مع أن رئيس هذا المشروع، قبل اندلاع تلك الأحداث، اشتهر بتلك الرسالة التي وجهها إلى وزير الداخلية الأسبق، إدريس البصري، لكي يحظى بشرف مقابلته! كأن هذه الأحداث ساهمت في كشف مشروع هؤلاء)
ما سوف نعاينه لاحقاً، خاصة بعد اتضاح الرؤية بخصوص طبيعة أداء حزب “العدالة والتنمية”، بنواته الدعوية، حركة “التوحيد والإصلاح”، ومع تأثير الثورة الرقمية، ومنها دور مواقع التواصل الاجتماعي، أن الحديث عن الاتجار بالدين، سوف يُصبح سائداً في هذه المواقع الرقمية، وصادراً عن جزء من الرأي العام، ولم يعد هذا الجزء يشعر بأي حرج عندما يتحدث عن تجار دين، في الساحة الحزبية والسياسية، بينما كان الأمر خارج دائرة التفكير، أن نعاين التفاعل نفسه قبل أحداث “الفوضى الخلاقة”.
ليس هذا وحسب، إذا تمّ التدقيق أكثر في المجالات التي نعاين فيها الظاهرة، فلا تهم المجال الحزبي والسياسي وحسب، بل نجدها في العمل البحثي، والعمل الإعلامي، ومجالات أخرى.
وما زاد الوضع تعقيداً أن نسبة المعنيين بالظاهرة عصية على الإحصاء، بل نزعم أنها لا تهم بعض الإسلاميين وحسب، من إخوان وسلفيين وهابين، بل نجدها حتى عند بعض الفاعلين في العمل الصوفي [في الخطاب والممارسة، أو كلاهما معا]، وهذا أحد أسباب ظاهرة “ما بعد الطرقية”، أي حالات أعضاء كانوا ينتمون إلى طرق صوفية، ولكنهم أخذوا مسافة منها. صحيح أنه بالرغم من ذلك، لا يمكن مقارنة مؤشر الاتجار بالدين عند هذه التنظيمات، لأنه مستفحل عند التيار الإسلامي الحركي، وخاصة التيار المنخرط في العمل السياسي والحزبي، ولكن لا يمكن صرف النظر عن وجود الظاهرة نفسها عند بعض الصوفية.
بعيداً عن التفاعل الكمي والنوعي لجزء من الرأي العام مع هذا الشعار، أي حديثه صراحة عن وجود تجار دين، هناك معضلة مسكوت عنها، تكشف حجم المأزق الذي تورط فيه هؤلاء، من أتباع العمل الديني، وفي مقدمتهم التيار الإسلاموي، دون التقزيم من باقي النماذج، وإن كنا نعتبرها أقلية مقارنة مع وزن المعضلة عند الإسلاميين.
تفيد هذه المعضلة، أن الحديث عن الاتجار بالدين، من منظور بحثي صرف، أو من منظور عقدي، أمر لا يستقيم أو مؤرق، وصعب القبول به، وبالرغم من ذلك، وصلنا إلى هذا المقام أو الترويج في الرأي العام لظاهرة الاتجار بالدين، بما يتطلب بعض التدقيق.
من منظور بحثي صرف، لا يمكن أن نقرأ في دراسة علمية رصينة، من قبيل بعض الدراسات الأكاديمية [وليس كلها، بسبب دخول الرداءة البحثية]، عبارة الاتجار بالدين، لأنه يبدو حكم قيمة، ويحتاج إلى أدلة ووقائع ملموسة على أرض الواقع، ورغم أنها موجودة فعلاً، وما أكثر الأمثلة هنا في المغرب، ولكن من الصعب الخوض فيها بشكل صريح في بحث علمي، فمثلاً، وما دامت الجامعات المغربية أصبت تعج بالأسماء الإخوانية، بسبب عملية الاختراق الذي تعرضت له خلال العقد الأخير، وخاصة اختراق إخوان “التوحيد والإصلاح” و”العدالة والتنمية”، وبدرجة أقل إخوان “العدل والإحسان”، سواء كانوا صرحاء في إعلان الانتماء للمشروع الإسلاموي أو كانوا يمارسون التقية، فلا يمكن لطالب باحث الخوض في هذا الموضوع ضمن أطروحة ماستر فالأحرى أطروحة دكتوراه، إذا كانت لجنة المناقشة تضم فاعلاً إخوانياً، ضمن أمثلة أخرى، رغم كثرة الأمثلة الميدانية كما سلف الذكر، حتى إن بعض هذه الأمثلة، نجدها في الجامعات نفسها، من طنجة إلى أكادير، ومن وجدة إلى مراكش.
والأمر نفسه من الحديث عن الاتجار بالدين من منظور عقدي صرف، أي من منظور شرعي ــ تأصيلي، لأنه لا يختلف كثيراً عن معضلة التكفير: الاختلاف هنا في النوع وليس في الدرجة، والمقصود بالدرجة هنا، مقام عنوانه توزيع صكوك الغفران، لأن اتهام هذا الشخص أو غيره بأنه تاجر دين، يحتاج إلى تأصيل شرعي صريح، حتى يكون الاتهام صحيحاً، حتى لو كان في جلسة خاصة أو في الكواليس، لأن دستور الدولة الوطنية الحديثة، لا يسمح بترويج هذا الخطاب بشكل علني، إلا في أذهان من لا زال يحلم بـ”دولة الخلافة” و”دولة المرشد”، وما جاور هذه الأوهام التي يروجها أساتذة جامعيون في مؤسسات الدولة، التعليمية والدينية، لأنه فتحت لهم الأبواب.
ورغم ثقل هذا العائق النظري المزدوج، الخاص بالمجال البحثي والمجال العقدي، نجد نسبة من الرأي العام، تتحدث صراحة عن وجود تجار دين، وهذه إشارة تفيد أن العديد من أسماء الساحة، التي استغلت ما يُسمى “المرجعية الإسلامية” من أجل الارتقاء الاجتماعي والظفر بالمناصب، كانت تجهل دور العديد من السنن الكونية أو السنن الربانية، بدليل إنها توصف بأنها تاجرة دين.
صيغة أخرى، دينية هذه المرة، لأطروحة “مكر التاريخ”.
“فأما الزبد، فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس، فيمكث في الأرض”. الآية.