هاشم صالح و”قرآن المؤرخين”: في نقد الانبهار
محمد التهامي الحراق
أصدر المفكر التنويري والمترجم الأنيق هاشم صالح كتابه الأخير “العرب بين الأنوار والظلمات..محطات وإضاءات”(دار المدى، 2021)، مضمنا إياه مقالات هامة ودراسات متعاضدة، تسير جميعها ضمن نسق الدفاع عن التنوير في الفكر العربي الإسلامي، ومناهضة كل أشكال الانغلاق الفكري والانسداد الأصولي، ونقد بقاء المسلم حبيس سباته الدوغمائي، معتقلا في المقاربة التعصبية والطائفية والقروسطية للدين، مما يحجب ما في نصوص الإسلام التأسيسية من أنوار العقلنة والتسامح والسمو الروحاني، وما يكتنزه تاريخ الإسلام من إمكانات نفيسة لتحقيق المصالحة مع الحداثة وفتوحاتها الإنسانية الخارقة وغير المسبوقة.
ضمن هذا الأفق، الذي يكتب فيه هاشم صالح بسلاسة في اللغة ووضوح في الرؤية، بل وبوفاء نادر، وحماس متفرد، وانخراط عقلي ووجداني متوهج، بحيث يعتبر هذا الأفق مشروعه المصيري؛ بل مشروع كل المثقفين التنويريين في السياق العربي الإسلامي المعاصر؛ ضمن هذا الأفق نجده يكتب مقالا عن كتاب “قرآن المؤرخين” الذي صدر أواخر 2019، بمشاركة زمرة من المتخصصين الغربيين في الدراسات القرآنية، وتحت إشراف محمد أمير معنوي وغيوم داي، وهو عمل موسوعي في طبعة أنيقة من ثلاثة اجزاء؛ الأول خاص بالدراسات، والثاني والثالث مخصصان لتقديم قراءة أو “تفسير” تاريخي لجميع سور القرآن الكريم. وقد سبق لنا أن قدمنا تعريفا مقتضبا وتعليقات أولية عن الكتاب.
ما أثارني في مقال الأستاذ هاشم صالح المعنون ب”ما هو أهم كتاب صدر في القرن الحادي والعشرين إلى الآن؟”، وكما هو باد منذ عنوانه، هو حجم الانبهار، وفيض التمجيد اللذان خص بهما “قرآن المؤرخين”، حيث اعتبره فتحا مبينا، أتى بما لم يأت به الأوائل، وأنه “حدث فكري علمي لا سابق له ولا مثيل”؛ بل “إنه حتما أهم حدث فكري يحصل…، وربما منذ بداية القرن”(ص.118). وقد اعتبره كتابا تنويريا ضخما، يمثل أنموذجا لإسلام الأنوار؛ لأنه حسب هاشم يخرجنا من التفاسير التقليدية التي تجاوزها الزمن، يقول في لغة تقطر تبشيرا وحماسا: “اقرؤوا إذن هذا الكتاب لكي تتجاوزوا التفاسير التقليدية التي عفا عليها الزمن، اقرؤوا لكي تنسوا التفاسير الخرافية…”(ص.123). فهو يرى أن هذا الكتاب تحرير للقرآن الكريم من النزعة الحرفية، من خلال قراءته قراءة تاريخية تدرسه”كوثيقة تاريخية ولغوية وأدبية ودينية، تعود إلى القرن السابع الميلادي. معناها أن نربطه بظروف عصره ولا نسقط عليه ظروف عصرنا ومفاهيمه الحديثة” (ص.123). وبذلك سننتقل، حسب المؤلف، من القراءة الطقوسية التعبدية العشائرية لنقرأ القرآن الكريم قراءة علمية تاريخية وفلسفية. وهو ما يعني، حسب هاشم صالح، أن “القرآن سينقسم عندئذ إلى قسمين: آيات كونية صالحة لكل زمان ومكان، وآيات ظرفية عرضية مرتبطة بحيثياتها التاريخية. النوع الأول يشمل كل الآيات الروحانية والأخلاقية العالية الواردة في القرآن الكريم بكثرة لحسن الحظ. والنوع الثاني يشمل كل آيات التكفير والعنف والقتال”(ص.126). سيكون من الصعب هنا أن نناقش كل هذه الأفكار بشكل تفصيلي، لذا سأكتفي بتسجيل الملاحظات النقدية التالية:
– لم يلتفت الأستاذ هاشم صالح، وهو تحت سطوة الانبهار، إلى الآراء العلمية المتباينة في كتاب “قرآن المؤرخين”، بحيث إن أهمية الأعمال الصادرة فيه، وطبيعته الأنيقة، والترويج الإعلامي الذي ظفر به، كل ذلك لا ينبغي أن يحجب عنا المؤاخذات العلمية العديدة التي وجهت إليه، مثل كونه أقصى من الاعتبار المصادر الإسلامية في النظر للقرآن الكريم حين اعتبره نقطة وصول، أو كون الكتاب أصر على رد القرآن الكريم إلى ما اعتبره “أصولا” في التراثات السريانية والآرامية والعبرانية والكتابية السابقة؛ أو حين ادعى مؤلفوه الإتيان بالجديد، فيما الكتاب هو تجميع لخلاصات الدراسات القرآنية الاستشراقية خلال القرنين السابقين بشكل خاص، و”لم يأت بجديد البتة” كما صرح بذلك عبد المجيد الشرفي؛ أو حين أقصى كل الدراسات الغربية التي تمتلك رؤى مغايرة لتلك المسبقات التي يصدر عنها الكتاب في التعامل مع النص القرآني الكريم.
_ الملاحظة الثانية، هي مناقضة الأستاذ هاشم بين التلاوة العشائرية للقرآن الكريم والمقاربة العلمية له؛ وكأن “الأعلام التنويريين” في تاريخ الإسلام، ممن أشاد بهم هاشم صالح طوال الكتاب، لم يكونوا يتلون القرآن الكريم تعبدا وتنسكا دون أن يمنعهم ذلك من النظر المعرفي والفلسفي والروحاني في القرآن الكريم، أشير هنا تمثيلا إلى أسماء استحضرها مرارا في كتابه مثل الكندي وابن سينا والتوحيدي وابن رشد وابن العربي…؛ مما يعني تهافت المناقصة بين التلاوة العشائرية والقراءة العلمية؛ إذ لا يعني اعتماد إحداهما رفض الأخرى، لأن لكل واحدة مستواها المتميز، وأفقها الخاص، دون إلغاء لإمكان الجدل الخلاق بينهما.
_ الملاحظة الثالثة هي اعتبار المقاربة التاريخية لآي القرآن الكريم تحريرا للقراءة من النزعة الحرفية، وهذا وهم كما فصلنا ذلك في مقدمة كتابنا “في الجمالية العرفانية…من أجل أفق إنسي روحاني في الإسلام”(دار أبي رقراف، الرباط، 2020)، حيث أوضحنا أن القراءة التاريخية توثن التاريخ مثلما أو توثن القراءة الحرفية الحرف، وأن القراءة الحرفية تنسجن بظاهر النص، فيما تجمد القراءة التاريخية الآيات في لحظة زمكانية لا تتجاوزها، دونما تمييز بين الآيات الكونية الخالدة والآيات التاريخية الظرفية. القراءتان أصوليتان يا صديقي هاشم، سواء باسم الجمود على الحرف أو الجمود على التاريخ، وكلاهما تفضيان إلى التعصب والتطرف والانغلاق، وكلاهما توقعان في الوهم، حيث توقع القراءة الحرفية في وهم الاستحالة المعرفية، وتوقع القراءة التاريخية في وهم الاستحالة الإيمانية، فالأولى تنفي تعدد المعنى وهو مستحيل معرفيا، والثانية تنفي الغيب والوحي وهو مستحيل إيمانيا.
_ الملاحظة الخامسة والأخيرة، هي أن الأمر المنسي في كتاب “قرآن المؤرخين” وفي مقاربة هاشم صالح، هو أن التنوير لن يتحقق بغير النظر في جدلية الوحي والتاريخ، وجدلية العقل والإيمان، أو العلم والدين، التي نبه عليها أيضا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في مقاله الأخير والدال بمجلة L’EXPRESS (ديسمبر 2021). وهو ما يعني بأن استلهام الجدل المبدع عند أعلام التنوير في تاريخ المسلمين بين “التلاوة الشعائرية” و”القراءة العلمية”، والنظر الجدلي في العلاقة بين الآيات الروحانية والأخلاقية وآيات الأحكام التشريعية، هو الكفيل بتحقيق التنوير المنشود، لأنه سيحررنا من القراءتين الحرفية والتاريخية، أو بالأحرى التاريخوية، على حد سواء، وسيمكننا من النظر إلى القرآن الكريم كوحدة دلالية تشج بفرادة بين الغيب والشهادة، بين العقل والروح، بين التعبد والتفكر، دون إغفال لأي بعد من أبعاد الإنسان من جهة، ودون الوقوع لا في الأصولية التكفيرية التي تؤدي إلى إلغاء التاريخ، ولا في الأصولية التاريخية التي تؤدي إلى تطرف إلغاء الوحي، من جهة ثانية.
خلاصة القول أن النتائج التي تفضي إليها أبحاث “قرآن المؤرخين”، تناقض الشعارات التي من أجلها مجد هاشم صالح هذا الكتاب؛ ذلك أن التنوير الديني المنشود الذي يطمح إليه ويتغنى به صاحب “العرب بين الأنوار والظلمات”، والذي نشاطره في جزء كبير منه، لا يجد سنده في كتاب “قرآن المؤرخين” بقدر ما يشكل هذا الأخير عقبة حقيقية في سبيل هذا التنوير، بسبب أصوليته التاريخية. فيما قد يكون في أعمال أسماء أخرى انتبه إليها هاشم صالح مثل محمد إقبال أو محمود محمد طه أو فضل الرحمن أو عبد النور بيدار، وأخرى لم ينتبه إليها مثل ابو القاسم حاج حمد أو سليمان بشير ديان أو طارق أوبرو أو عبد الجبار الرفاعي ما قد يستحق النقاش في هذا الأفق.