إسلاميات.. معضلة الجماعات الجهادية في إفريقيا دول جنوب الصحراء
منتصر حمادة
كما كان متوقعاً، حظيت التهديدات الصادرة عن الجماعات الجهادية بحصة الأسد في مضامين عدد خاصة من مجلة “الدبلوماسي” الفرنسية، في عددها الفصلي الصادر مؤخراً منذ أسابيع، وهو عدد مخصص كلياً لموضوع النزاعات في العالم، والمجلة للتذكير، متخصصة في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية.
توزعت محاور العدد على مقدمة وست محاور جاءت عناوينها كالتالي: استباق الحروب النزاعات في أوروبا، النزاعات في أمريكا، النزاعات في الشرق الأوسط، النزاعات في إفريقيا، وأخيراً، النزاعات في آسيا.
في الحالة الأوروبية مثلاً، نقرأ وقفات عند أزمة دول البلقان، الصراع في أوكرانيا بين روسيا وحلف الناتو، والتهديدات التي تطال أيرلندا الشمالية؛ بينما نقرأ في المحور المخصص للنزاعات الأمريكية، أزمات العنف في البرازيل وشبكات الاتجار في المخدرات وخاصة في المكسيك؛ وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، ثمة مادة مخصصة للصراع الإسرائيلي ـ الإيراني حيث خلصت إلى أن تهديد يهم المنطقة برمتها، عنوانه اندلاع الحرب بين الدولتين، تتورط فيها دولاً أخرى بمقتضى صراع المحاور؛ إضافة إلى مواد أخرى عن حرب اليمن، وجاءت في صيغة حوار مطول مع فانسوا فريسون روش [باحث في المعهد الفرنسي للدراسات العلمية، وهو المدير السابق للمشروع الفرنسي الخاص بالمساهمة في المرحلة السياسية الانتقالية في اليمن، بين 2021 و2014]؛ الاستقرار الهش في العراق مع وجود نظام موالي لإيران؛ والتهديد الذي تتعرض له سوريا بشكل يغذي خيار الانقسام المستمر.
بينما خُصّص محور النزاعات الأسيوية للتوقف عند واقع الأزمة في كوريا الشمالية، المأزق في كشمير، وأخيراً تأجيل قيام الحرب في تايوان، إضافة إلى دراسة مخصصة لتطورات الأزمة في أفغانستان بعد 43 سنة من النزاعات والحروب، وإن قزمت تهديدات تنظيم “القاعدة” بسبب ارتباطات التنظيم ببعض قيادة حركة “طالبان” حسب ما خلُص إليه محرر الدراسة، جورج لوفوفر، الباحث معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، ومتخصص في قضايا باكستان وأفغانستان، ومستشار سابق للاتحاد الأوربي في قضايا المنطقة.
نأتي للمحور الذي يهم معضلة النزاعات والصراعات في الساحة الإفريقية تحديداً وكان أهم محور في العدد الخاص، كماً ونوعاً، حتى إنه تضمن وقفات مع العديد من النماذج، بخلاف الوقفات المتواضعة مع النزاعات والصراعات في باقي القارات، وحتى ضمن هذه الوقفات الخاصة بالقارة الإفريقية، نعاين وقفات موازية بتفاصيل ومراجع تهم عدة نماذج من هذه الصراعات.
توقف هذا المحور عند مؤشرات الخروج من الأزمة في المشهد الليبي؛ احتمالات الحرب بين المغرب والجزائر، مع عرض عدة إحصائيات ذات صلة بالاستعدادات والعسكرية للبلدين؛ الحرب المفتوحة في إثيوبيا؛ التوقعات القاتمة في الموزمبيق بسبب المعضلة الجهادية؛ الصراع بين المحور الفرنكفوني والمحور الأنغلوفوني في الكاميرون؛ الأزمة المستدامة في جمهورية أفريقيا الوسطى؛ احتمالات العنف في جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ وأخيراً الدراسة التي حظيت بأكبر نسبة من الاشتغال البحثي في الملف، ويهم الظاهرة الجهادية في إفريقيا دول جنوب الصحراء.
جاءت الدراسة موزعة على خمس صفحات موثقة بمراجع، بقلم الباحث نيكولا نورمان، وهو باحث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، وسفير سابق في كل من مالي والكونغو والسنغال، ومؤلف كتاب “الكتاب الأكبر لإفريقيا” (صدر في سنة 2019). وانطلقت الدراسة من التذكير بأن فورة الظاهرة الجهادية في إفريقيا دول جنوب الصحراء، أو منطقة الساحل بشكل عام، تعود على الخصوص إلى سنة 2012، أي مباشرة بعد اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة” [2011 ــ 2013] في المنطقة العربية وهمت الفوضى الجهادية العديد من الدول، وخاصة مالي في الشمال على الخصوص، وبوركينا فاسو والنيجر ودولاً أخرى، مضيفاً أن ما يُميز جهاديي المنطقة الجمع بين الكراهية الشديدة للدول الغربية والعداء للدولة الوطنية الحديثة، أياً كان شكل هذه الدولة، وهذا قاسم مشترك نجده عند أغلب الإسلاميين بشكل عام، ومن هنا حديث الأدبيات الإسلاموية عن “البيعة” و”دولة الخلافة”.
كما توقفت الدراسة عند تشعب الجماعات والمشاريع الجهادية في المنطقة، بين جماعات موالية لتنظيم “القاعدة”، وأخرى موالية لتنظيم “داعش”، تحالفات الأولى تحت تكتل جهادي ابتداءً من سنة 2017، وقبلها التيارات الموالية لتنظيم “داعش” تحت تكتل جهادي آخر أعلن عنه في سنة 2016.
ما يُميز سنة 2021 أنها عرفت عدة تحولات ميدانية وفي مقدمتها الإعلان عن إنهاء “عملية باركان” الفرنسية التي كانت تروم القضاء على الجهاديين في مالي أو على الأقل التقليل من خطرهم، في سياق تعويض العملية بمشروع بديل يتميز بحضور عسكري متواضع مع المرحلة السابقة، لكنه أكثر تفاعلاً مع باقي المؤسسات الأمنية في المنطقة، ومن بين التحولات أيضاً، صعود المؤشرات العداء ضد الحضور الفرنسي بشكل مغاير عن السنوات السابقة، وأخيراً، كثرة التحالفات بين الجهاديين فيما بينهم من جهة، وإطلاق مشاورات ومفاوضات بين الفصائل السياسية والقتالية داخل مالي من جهة ثانية.
أوردت الدراسة مجموعة من الأرقام التي تتطلب تحيل على هول الأحداث والاعتداءات الإرهابية في المنطقة، والتي تؤكد واقع عدم الاستقرار والاعتداءات الإرهابية للجماعات الجهادية، وهي إحصاءات تثير الفزع عند نسبة من شعوب المنطقة، منها أنه بين فاتح يناير 2020 و11 يونيو 2021، وصل عدد الضحايا إلى 873 قتيلاً في مالي و750 قتيلاً في بوركينا فاسو و676 قتيلاً في النيجر. هذا دون الحديث عن الضحايا المدنيين الذين سقطوا نتيجة اعتداءات قامت قوات محلية، بما في ذلك الضحايا الذين سقطوا على يد القوات المالية. ويجب التذكير هنا بأن الساكنة في النيجر التي حاولت مقاومة الجهاديين كان مصيرها التعرض لحملات التقتيل الجماعي من طرف هذه الجماعات.
بالنسبة لأسباب هذا العنف المركب، فقد أكدت الدراسة أن الأمر يتعلق بأسباب متعددة، نذكر منها صعوبة فرض السلطة هيبتها على مجمل تراب الدولة، سهولة تنقل الأسلحة بين دول المنطقة، كثرة الخلافات العرقية والإثنية بين العديد من قبائل المنطقة، إضافة إلى تأثير الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومن ذلك ارتفاع معدلات البطالة وتأثير التحولات المناخية في منطقة تتميز أساساً بصعوبة المناخ، وواضح أن مجمل هذه العوامل المحلية والإقليمية، تصب في مصلحة الحركات الجهادية التي لا تجد عناءً كبيراً في سياق استقطاب المراهقين والشباب، بسبب الإغراءات المالية التي توفرها لهؤلاء.
من بين الأسباب أيضاً، أن الجهاديين يمتلكون خبرة دقيقة لجغرافية المنطقة وطبيعة الصراعات الإثنية، بما خوّل لهم التحكم في مناطق عبر فرض الزكاة باعتبارها ضريبة إسلامية، كما لو أن الأمر أصبح بديلاً لمؤسسات الدولة في تلك المناطق بتعبير بعض المراقبين الغربيين، ممن يحذرون الدولة الوطنية بأن التخلي عن ساكنة تلك المناطق يُغذي المشاريع الجهادية.
بخصوص القرار الفرنسي القاضي بإنهاء “عملية بركان”، فإنه يؤكد تواضع الاستراتيجية الفرنسية في قراءة الظاهرة الجهادية، ومن نتائج ذلك أنه تقرّر تقليص عدد الجنود المشاركين في العملية من 5100 إلى 3000 من نهاية 2021 حتى 2023، على أن تنسحب القوات الفرنسية من القواعد العسكرية التي توجد في شمال مالي، وخاصة قواعد تيساليت وكيديال وتومبكتو، قبل ترحيل ما تبقى من الجنود إلى قاعدة غاو بمالي ونيامي بالنيجر، وبالتحديد في المنطقة التي توصف بمنطقة الحدود الثلاثة، لأنها تجمع بين حدود مالي والنيجر وبوركينا فاسو، حيث تنشط أهم الجماعات الجهادية، وخاصة تنظيم “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”، لولا أن هذه التحولات والقرارات جاءت متأخرة برأي محرر الدراسة، معتبراً أن حسب الخيار الأمثل يقضي بتشكيل قوات مخضرمة، تضم جنوداً من دول المنطقة إلى جانب الجنود الفرنسيين، من أجل تفادي أخطاء المرحلة السابقة.
من القلاقل التي تواجه القراءات القادمة، تلك المرتبطة بالتكلفة المالية والدبلوماسية لهذه المستجدات، بلا أدنى ضمانات لكي تكون ناجحة، أخذاً بعين الاعتبار نتائج القرارات السابقة من جهة، أو نتائج تجارب موازية في القارة، وبالنتيجة، تبقى الخيارات العملية التي تروم التصدي للمعضلة الجهادية إلى إطلاق مقاربات مركبة وشاملة تأخذ بعين الاعتبار عامل السن عند الجهاديين وأغلبهم من فئة المراهقين والشباب، كما تأخذ بعين الاعتبار كذلك تأثير الهشاشة الاجتماعية وإكراهات الظروف الاقتصادية وأزمة البطالة، تدبير أزمة المياه، الصراعات بين بعض الأساقفة والمزارعين، وواضح أن مجمل هذه العوامل تساهم في دفع فئة من الشباب نحو السقوط في الإغراء الجهادي رغم أنهم لا علاقة لهم بتأثير أدبيات جهادية أو تصفح شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، على غرار ما نعاين مع أسباب الظاهرة الجهادية بالمنطقة في مناطق أخرى.
من الخيارات الحساسة التي تطرقت إليها الدراسة بخصوص مواجهة الجهاديين، خيار مؤرق عنوانه الدخول في مفاوضات مع الشبكات الجهادية المحلية والتي لا تدين بالولاء الجهادية العالمية، وهذا الخيار للتذكير، هو كان موضوع افتتاحية صحيفة “لوموند” مؤخراً.
صحيح أن “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى” ترفض التفاوض بل توجه النداء إلى كافة الساخطين والمتمردين للالتحاق بالتنظيم إما لاعتبارات إيديولوجية أو لاعتبارات مالية، إلا أنها لا تمثل مجمل المشهد الجهادي لأن هناك جماعات جهادية موازية أعلنت عن إمكانية الجلوس على طاولة المفاوضات، إضافة إلى أنه من نتائج خيار المفاوضات أنه يساهم في تقسيم الجبهة الجهادية وبالتالي التقزيم من خيار الوحدة أو التكتل الجهادي.
جاءت خلاصات الدراسة سوداوية الطابع، معتبرة أن الآفاق قاتمة بالنسبة للسنوات القادمة، وأن الحل يمر عبر توافقات استراتيجية بين السلطات المحلية والإقليمية والدولية إن كانت هناك رغبة حقيقية في التصدي للجماعات الجهادية، مع الأخذ بعين الاعتبار تشابك الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والعرقية والبيئية التي تساهم في الدفع بمراهقي وشباب منطقة الساحل للانضمام إلى الجماعات الجهادية، سواء كانت جماعات محلية غير معنية بالجهادية العالمية أو كانت جماعات جهادية وازنة وذات امتدادات وارتباطات فوق وطنية.