الدار/ افتتاحية
لا يمكن وصف الملحمة التاريخية التي شهدها ملعب المدينة التعليمية بقطر اليوم إلا بأنها مسيرة كروية حقيقية ستظل راسخة في تاريخ كرة القدم المغربية والعربية والإفريقية. المسيرة هنا كانت مرة أخرى في مواجهة الإسبان، لكنها كانت من أجل استرجاع مجد كروي غابر صنعه جيل منتخب 1986 بل وتجاوزه ببلوغ دور ربع كأس العالم لأول مرة في تاريخ المشاركات الوطنية. كل الأوصاف التي أطلقها المتابعون على هذه المباراة باعتبارها غزوا أو فتحا أو حتى حربا لم تكن كافية لوصف ما أنجزه أسود الأطلس اليوم أمام الماتادور الإسباني.
فالمباراة التي خاضها أشبال وليد الركراكي اليوم كانت بطولية بكل المقاييس. الاستماتة التي لعب بها عناصر المنتخب الوطني أمام الآلة الهجومية الإسبانية كانت غير مسبوقة، الطاقة التي أفرغها اللاعبون على أرضية الملعب في مواجهة الهجمات الإسبانية كانت قياسية، المجهود البدني والنفسي الذي قدّمه عناصر النخبة الوطنية كان أيضا استثنائيا بكل المقاييس. نايف أكرد ورومان سايس لعبا هذه المباراة حتى أفرغا كل إمكاناتهما العضلية حدّ التعرّض للإصابة، التضحيات التي قام بها لاعبو الهجوم كحكيم زياش وبوفال والنصيري من أجل دعم خطوط الدفاع كانت أيضا عنوانا لهذه الفروسية التي خاض بها أسود الأطلس مباراة اليوم. أمّا الروح القتالية التي واجه بها سفيان أمرابط المهاجمين الإسبان فكانت مُبهرة إلى أقصى حد.
وأن يتحقّق هذا المنجز الكروي المتفرّد أمام المنتخب الإسباني على الخصوص فهذا في حد ذاته يعتبر درسا من دروس كأس العالم التي سيتعلم منها المبتدئون. لقد قضى أسود الأطلس ووليد الركراكي بإقصاء المنتخب الإسباني على فلسفة كروية كاملة صنعت مجد إسبانيا، إنها طريقة “التيكا تاكا” أو الاستحواذ الشامل على الكرة. لقد ترك المنتخب الوطني المجال مفتوحا أمام اللاعبين الإسبان من أجل الاستحواذ على الكرة، ومن ثمة التركيز على التموقع الدفاعي بينما كان على اللاعبين الإسبان أن يمتلكوا المبادرة ويصنعوا الكرة طوال 120 دقيقة مرهقة من اللعب. وبعد كل هذا تنتهي المباراة على إيقاع عقم هجومي إسباني واضح وتكون أمام اللاعبين المغاربة فرصة الامتياز النفسي في لعب ضربات الجزاء الترجيحية. الدرس الذي لقّنه وليد الركراكي للويس إنريكي ضرب هذه الطريقة الإسبانية في مقتل، إذ ما الجدوى من الهيمنة والاستحواذ على الكرة إذا كانت النهاية هي العجز عن التهديف ثم الخسارة في ضربات الجزاء؟
هذا جانب من الإنجاز التاريخي الذي صنعه المنتخب الوطني، وهو إطلاق رصاص الرحمة على ما كان يميّز كرة القدم الإسبانية والمنتخب الإسباني على الخصوص، وكشف محدودية هذا النوع من الأداء التكتيكي الذي تضيع فيه الكثير من الطاقة ويُهدر فيه التركيز إذا لم يُتوج بتسجيل الأهداف. لأجل ذلك فإن أول من يستحق التهنئة والشكر على هذا الفوز الجديد للمنتخب الوطني هو المدرب وليد الركراكي الذي استطاع وفي ظرف وجيز أن يكسب ثقة لاعبي المنتخب الوطني ويقنع لاعبين محترفين كبار من عيار أشرف حكيمي وحكيم زياش ونصير مزراوي بطريقته الخاصة في اللعب، وبضرورة الامتثال والانضباط لتعليماته التكتيكية. ليس من السهل أبدا على مدرّب تحمّل المسؤولية قبيل كأس العالم ببضعة أسابيع أن يصنع كل هذا التناغم والانسجام ويبث كل هذه الروح القتالية العالية في نفسيات لاعبين كانوا إلى الأمس القريب يعانون من تشتت التركيز وغياب الحافز.
لقد قدّم أسود الأطلس مباراة تاريخية واستنفدوا الكثير من الطاقة والجهد، ونالهم من الإرهاق ما نالهم بعد مباراة طويلة تجاوزت 120 دقيقة، لكن عندما يكون في مرماك حارس من طينة القائد ياسين بونو فإن من حقك أن تحسّ بالأمان والاطمئنان وتستند إليه خصوصا في مباراة خروج الغالب التي تنتهي بضربات الجزاء الترجيحية. صحيح أن المنتخب الوطني سيواجه منتخبا قويا في دور الربع هو المنتخب البرتغالي لكن ثقتنا الكبيرة في أسود الأطلس وقوتهم النفسية وروحهم القتالية العالية وانتمائهم الخيالي للوطن والعلم المغربي تجعلنا متفائلين مرتاحين إلى أن المستحيل لن يكون مرة أخرى مغربيا في دور الربع.