المواطن

بصمات فضالية.. الحلقة السابعة مع المقاوم سحيم أمحمد بن السحايمي

الدار/ إعداد: بوشعيب حمراوي

لكل مدينة وقرية رائدات ورواد، بصموا بمعادن نفيسة في سجلات تاريخها الحضاري. ساهم كل من زاويته وتخصصه في نهضتها وتطورها في كل المجالات.. 

مدينة الفضاليين.. ومشتل قبائل المجدبة وزناتة والشاوية… واحدة من تلك المدن التي تحتفظ بأرشيف ثقيل ووازن يستحق الذكر والتذكير والإشادة..  مدينة حظيت باسم ملكي (المحمدية)، نسبة إلى الملك الراحل محمد الخامس.. واستحقت في فترات من صيرورتها أن تلقب بمدينة الزهور والرياضات الأنيقة. بفضل نساءها ورجالها المبدعين، المكافحين. 

نسعى من وراء سلسلة (بصمات فضالية)، أن نسلط الضوء على هؤلاء وأولئك الذين واظبوا على إشعاع نور الأمل والتحدي والمثابرة بالمدينة. شخصيات محلية تألقت في مجالات متعددة محليا ووطنيا ودوليا.

نجوم فضالية برزت في كل مناحي الحياة.. كانت القدوة والقائد و النموذج التنموي المفروض أن يحتذي به الأطفال والشباب… وسيكون لمآثر ومعالم ورموز المحمدية نصيب من هذه السلسلة.. حيث الحديث عن قصص مثابرة وتحدي وكفاح ونجاح وتميز وصمود … تشهد بها المدينة وسكانها وكل الوطن..

——-

بصمات فضالية.. الحلقة السابعة مع المقاوم سحيم أمحمد بن السحايمي

 

ترك المقاوم الراحل سحيم أمحمد بن السحايمي بصمات واضحة في وجوه الفضاليين ومعهم سكان تراب جهة الدار البيضاء/ سطات. المنطقة التي قاوم من داخلها الاستعمال الفرنسي وأذنابه الخونة. ليظل اسم (السحايمي) منقوشا لدى الساكنة الأصلية. كرمز من رموز المدينة ورجالاتها الذين فضلوا حياة التشرد والنضال، على حياة العبودية والمهانة. 
ذاق المقاوم الفضالي سجن الاستعمار الغاشم، وكل أوجه العذاب من طرف القيادات الفرنسية ومعها رزمة المغاربة الخونة. لكن بالمقابل فقد أقلق راحتهم وجعلهم يعيشون فترات خوف ورعب وجبن، بشهامته وشجاعته وذكائه رفقة ترسانة من المقاومين بالمدينة والجهة. 

بل إن نضالات السحايمي استمرت حتى بعد حصول المغرب على استقلاله، حيث انخرط في قطار التنمية والبناء والتصدي لبقايا أذناب الاستعمار. وعرف بدعمه لكل المكافحين والمجاهدين في سبيل مملكة مغربية آمنة مستقرة. ومن أجل أن يحظى الشعب بالحرية والديمقراطية التي لازال يثابر من أجل إدراكها كاملة.  

بداية الانخراط في المقاومة

انخرط السحايمي المزداد سنة 1929 بمدينة فضالة (المحمدية)، في صفوف المقاومين، في بداية شبابه. حيث ساعدته لياقته البدنية وشجاعته على ترويع الفرنسيين بالمدينة. وذلك بالتسلل ليلا، وكتابة مجموعة من الشعارات الرافضة للاستعمار والممجدة للملك الراحل محمد الخامس، وللمقاومة.. على جدران الأزقة والمسالك. مستعملا مادة الفحم الخشبي (الفاخر). 

وهو ما استنفر الفرنسيين و (المقدمين) والخونة، و خرجوا يبحثون عن من مصدر تلك الكتابات. واستقدموا باعة الفحم الخشبي، وسألوهم عن هويات كل من اشترى منهم الفحم الخشبي… إلى أن اهتدوا إلى شخص السحايمي. ليتم اعتقاله وسجنه بدون محاكمة. حيث تعرض داخل السجن للتعذيب والإهانة. وحاولوا استنطاقه بدون جدوى، من أجل الكشف عن هويات باقي المقاومين. 
 
الانضمام إلى منظمة اليد السوداء

بعد خروجه من السجن قرر السحايمي خوض النضال المنظم حتى لا يسقط مرة أخرى في أيادي الفرنسيين والخونة. حيث انضم إلى منظمة "اليد السوداء". لينتقل ن مرحلة الهواية إلى الاحتراف. تلك المنظمة السرية التي كان يتزعمها حينها الشهيد عباس لمساعدي. والذي كان زعزع استقرار المستعمر وأرعبه. بكل ربوع الوطن.  جمع أشجع الرجال منهم من استشهد حينها ومنهم مات بعد ذلك، هذا الزعيم  الذي مات غدرا بعد الاستقلال ويمكن العودة إلى ما ذكره  المحجوبي أحرضان في كتابه الأخير.

قام السحايمي بتكوين خلية خاصة بالمنطقة،  تتكون من أربعة أفراد (الحاج ابريك، بن عدي، الحاج بوقال، والسحايمي).  قامت الخلية بتجنيد المقاومين، وتحريض الناس ضد الفرنسيين والخونة. كما تكلفت بتجميع الأسلحة وتوزيعها على الجماعات التي انضمت إلى الخلية. تلك المجموعات التي ضمت حتى النساء، اللواتي حملن السلاح وجاهدن في عدة مناسبات.

ترعيب قادة الاحتلال والخونة

لم يكتف السحايمي بالكتابة على جدران المنازل والأسوار بالأزقة، بل إنه بدأ يتسلل رفقة أعضاء الخلية، إلى بيوت الخونة والقياد وقادة الاستعمار. وكتابة عبارات تهديدية بإنهاء الاحتلال. وتهديدهم بالتصفية الجسدية. 

ويحكي نجل المقاوم لموقع الدار، أنه تمت تصفية قائد مغربي بمدينة فضالة. وأن العملية تمت وسط حشد من الناس، حتى لا يعرف من القاتل. وأوضح أن الخلية خططت لعملية القتل. وقامت بإيفاد رجل وامرأة إلى منزل القائد، على أساس أنهما زوجان متخاصمان. ودخلا في خصام وعنف وصراخ، جعل الناس يلتفون حولهم من كل صوب. عندها خرج القائد لمعرفة ما يجري. فاغتنم السحايمي ورفاقه فرصة دخول القائد وسط الحشد. ليتم طعنه بعدة طعنات قاتلة بعدة خناجر، والفرار وسط الازدحام. كما قاموا بتصفية أحد أعوان السلطة حينها (مقدم) داخل منزله. وهي مبادرات كان الهدف منها ترهيب المستعمر.

اختيار السحايمي على رأس المقاومة بالمنطقة

مبادرات وجرأة السحايمي داخل الخلية التي أحدثها، جعل زعيم منظمة اليد السوداء، يختاره على رأس المقاومين والمقاومات بمنطقة فضالة وبن سليمان والمجدبة وأولاد لحسن إلى حدود منطقة الصخيرات وإعطائه إسم "لخليفه" وهذا هو الاسم الذي عُرف به بعد ذلك بين الوطنيين.

تحويل مسار قطار وقتل العديد من جنود الاحتلال

كانت نقطة التحول الكبرى وسط تلك الأحداث هي حين قام الوالد بمعية أفراد الخلية (الحاج ابريك، بن عدي، الحاج بوقال، )، بالذهاب ليلا إلى منطقة أولاد لحسن ، بعد معلومة عن قطار كان سيمر حاملا مجموعة من الفرنسيين. ومن بين شخصيات عسكرية كبيرة.  ذهبت المجموعة خلسة قبل وصول القطار، إلى السكة الحديدية بأولاد لحسن. وقامت بفك أجزاء السكة وتحويل اتجاها عشوائيا. ثم عاد أفرادها إلى منازلهم. وتسببت العملية في انقلاب القطار ومقتل العديد من الجنود الفرنسيين في عملية فدائية تعتبر الأكبر من نوعها بالمنطقة. 
 
الاعتقال الثاني للسحايمي

لم تمر على تلك العملية الفدائية إلا فترة وجيزو، حتى تم القبض على السحايمي، ومعه شريكيه في الخلية (بريك و ايت عدي)،  في حين تمكن  الشريك الرابع الحاج  بوقال من الهرب،  والاختباء ب (غابة الحلوف)، التي تعرف الآن بغابة 33  بحوض وادي النفيفيخ. حيث مكث بها لعدة أشهر ،  وكان والد السحايمي هو من  يعرف مكانه، ويمُده يوميا بالأكل والشرب.

دخول السحايمي السجن للمرة الثانية، لن يمر بسلام.  فقد عاش أشد العذاب على يد الفرنسيين والخونة. ومن بين أنواع التعذيب يحكي ابنه، أنه كا يتم تعليقه يوميا من رجليه من الصباح حتى المساء، مع وضع إناء كبير يحوي بقايا الصرف الصحي تحت رأسه ، وإدخال ثوب مبلل بمياه الصرف (جفّاف) وسط فمه، وضربه على قدميه حتى صار لا يقوى على الوقوف من شدة تورم قدميه. فقد كان جلادوه يسعون إلى الحصول على اعترافات ومعلومات ولوائح للمقاومين ومكان تواجد الأسلحة ومن يزودهم بها..لكنه لم يعترف بشيء.

قال ابن السحايمي: حين قبضوا على والدي، وأدخلوه  السجن اعترضه أحد خدام الفرنسيين الذي كان يُكنّ له حقدا كبيرا وقال له (ها نتا حصلتي أعينين البقرة) فأجابه الوالد (أنا البقرة لي ما عمرها تذبح ليكم)،  فقد خلق فيهم الرعب وصاروا  يعيشون كابوساً مع توالي تصفية الخونه الواحد تلو الآخر.

الحكم بالإعدام على السحايمي وشريكيه

حكم الفرنسيون على السحايمي و معه الحاج ابريك وبن عدي بالإعدام وكان تلك المحاكمة هي أكبر حدث في تلك الفترة . وبذلك طُويت أهم ورقة كُتب عليها بمداد من دماء شهداء فضالة،  تاريخ بطولات رجال المدينة ونسائها الذين أفنوا حياتهم. وتنكروا لدواتهم خدمة للوطن وللاستقلال والحرية.

ومن أحداث تلك المحاكمة حين جاء أحد المحاميين الفرنسيين للترافع والدفاع عنهم، فرفضوه جميعهم .وكان خاطب الراحل الحاج بريك حينها ذلك المحامي بشكل قوي، وقال له: لا يمكننا تقبل شخص يستعمر بلدنا أن يدافع عنا. 

فوعدهم المحامي بالدفاع عنهم، لكي يمنع إعدامهم، رغم صدور الحكم، وأن لديه خطيبته تعمل في المكتب الرئاسي في فرنسا وهي المكلّفة بملفات المحكومين بالإعدام في دول الاستعمار، وأنها ستقوم بتعطيل ملفهم وتأجيل التنفيذ كلما اقترب وقت إعدامهم.

وبالفعل كان المحامي صادقا، فقد تم تأجيل ملفاتهم إلى أن حان موعد عودة الملك محمد الخامس من منفاه، فأطلق سراحهم جميعا ومعهم جميع سجناء المقاومة من سائر سجون البلاد.

معركة ما بعد الاستعمار 

خاض الراحل السحايمي  معركة جديدة  بعد جلاء الاستعمار، وعودة الملك الرحال محمد الخامس إلى عرشه. حيث انخرط بحزب  الشورى والاستقلال الذي كان يتزعمه الراحل محمد بن الحسن الوزاني،  ويعتبر أول  حزب معارض أسس في المغرب.  وهو الحزب الذي كان منافسا لحزب الاستقلال. وعاشت البلاد انقساماً كبيرا بين الشوريين والاستقلاليين. وقعت اعتداءات كثيرة على المنتمين لحزب الشورى والاستقلال لكونهم فئة قليلة أمام فئة تتحكم في كل شئ في البلاد. ولم يسلم أبناء المحمدية من تلك الاعتداءات.  وكان للسحايمي العائد من الموت، ومعه رفاقه نصيباً كبيراً من تلك الاعتداءات. كانوا يقتحمون منزله بحثا عنه بدعم من السلطات حينها. في كثير من الأحيان كانوا  يقبضون عليه ويذهبون به إلى أمكنة مجهولة ليقوموا بتعذيبه هو ومعه مجموعة من المناضلين الشوريين.

أول انتخابات جماعية بالمغرب

بعد سنوات من الهيمنة المفروضة من الاستقلاليين عل كافة البلاد نُظمت أول انتخابات جماعية في المغرب وكانت مناسبة لمعرفة قيمة حزب الشورى والاستقلال عند عامة الشعب وبالفعل وضع السحايمي ملف ترشحه مع بقية رفاقه الشوريين. فتمت اختيار  شخص (كنون)، وكيلا للائحتهم، باعتبار مستواه الدراسي.وحصل الحزب بالمحمدية على أكبر عدد من الأصوات، وتكون أول مجلس جماعي في تاريخ المحمدية يسيره الشوريون برئاسة الحاج كنون وكان السحايمي نائبه.

التضامن مع الراحل عبد الرحيم بوعبيد

حين قبضت السلطات على الراحل عبد الرحيم بوعبيد،  ذهب السحايمي إلى تجمع الاشتراكيين في المحمدية، وخاطبهم بشدة وانتقد صمتهم وخشيتهم من مساندة رفيقهم. فقام بمبادرة فردية وجمع كل الرجال والنساء الشوريين ومعهم بعض الاشتراكيين ونظموا أكبر مظاهرة سليمة، لمساندة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، وقاموا بقطع السكة الحديدية لمدة يوم كامل إلى أن تدخل حينها عامل مدينة أنفا.  حيث التقى السحايمي باعتباره متزعم الحراك.   طلبه منه وقف التظاهر وتفريق الناس، ووعده بالتدخل من أجل إنصاف عبد الرحيم بوعبيد.

توفي السحايمي رحمه الله في 23 جمادى الثانية الموافق ل 23 مارس 2017.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى