حكايات يهود بني ملال.. حلقات يكتبها طلحة جبريل (الحلقة الأولى)
الرباط/ الكاتب والصحافي: طلحة جبريل
بقي إثنان فقط.. ورحيل "صولا وديبورا" المأساوي وباب مغلق يلخص تاريخاً معقداً
كان ذلك في يوم من أيام شتاء عام 2014 . بدأت حركة الناس تدب في أزقة حي "المقاومة " هو جزء من بني ملال العتيقة، ذلك اليوم ستعرف المدينة تفاصيل حكاية مأساوية بكل المقاييس.
في الصباح جاءت الشرطة والوقاية المدنية ورجال السلطة وأحاطت بمنزل متداع يحمل رقم 3 في زنقة رقم 7 . واحتشد فضوليون كثر لمعرفة ماذا يجري داخل ذلك المنزل .
باب ذلك المنزل خشبي وهناك شباك صغير في الباب ، وإلى جانب الباب على الجدار الذي صبغ بلون طوبي توجد نافذة حديدية صغيرة بها عداد استهلاك الكهرباء . و فوقه شباك آخر وبعض الأسلاك مثبتة على الجدار.
في هذا المنزل عاشت يهوديتان هما، صولا وديبورا. كانتا تنتميان إلى مجموعة يهودية صغيرة لايتعدى عددهم ثمانية أشخاص، بعد أن هاجر الآلاف.
كانت صولا في عقدها السادس، في حين كانت ديبورا في عقدها الخامس وهي من أصحاب الاحتياجات الخاصة ، في حين كانت صولا التي تبنت ديبورا جميلة أنيقة تعتني كثيراً بمظهرها .
قبل ذلك الصباح ، اعتقد جيران صولا وديبورا أنهما ربما ذهبتا إلى الدار البيضاء ، لكن حكايتهما كانت مختلفة. حكاية من حكايات طائفة يهودية كان تعدادها في حدود ثلاثة آلاف نسمة ، لم يبق منهم حالياً في بني ملال سوى إثنين فقط.
من خلال بحث ميداني تجمعت لنا معلومات عن مأساة صولا وديبورا ومعطيات أخرى عن "يهود بني ملال" الذين اقتلعوا إقتلاعاً من أرضهم باتجاه هجرة قسرية ، طوحت بهم في الأقاصي ، من كندا إلى إسرائيل .
تقول أليس آخر يهودية في بني ملال " كانت صولا وديبورا تسكنان قرب صالون الحلاقة في "ساحة المقاومة" الذي أملكه منذ أربعة عقود، تبنت صولا ديبورا التي كانت من ذوي الاحتياجات الخاصة. كانتا لا تخرجان من منزلهما إلا نادراً، تعيشان حياة عزلة وتحفظ.ربطت صولا علاقة وطيدة مع عمتها يزة وزوجها الليوي أزولاي الذي كان متخصصاً (معلم) في تصنيع "القرشال" وهي آلة لتنعيم صوف الغنم قبل تحويله إلى خيوط.
تواصل أليس روايتها " ربطت صولا علاقة طيبة مع جميع جيرانها ، وكانت لها أقارب كذلك في حي "بلاس فيردان" بالدار البيضاء ، لكن علاقتها معهم كانت فاترة ".
تصل أليس إلى تفاصيل المأساة ، وتروي روايتها قائلة" انقطعت فجأة أخبار صولا وديبورا ، لم نعد نرى صولا هنا واعتقدنا أنها في الدار البيضاء، لأنها كانت تذهب إلى هناك للعلاج ، إلى أن جاء يوم فوجئنا فيها بحشد من رجال السلطة والشرطة يحيطون بمنزل صولا ويحاولون فتح الباب ، وعندما استعصى عليهم ذلك بادروا إلى تكسيره . لم نكن نعرف ماذا حدث. وفوجئ الجميع بوجودهما داخل إحدى غرف المنزل جثتين هامدتين وإلى جانبها قطة ميتة".
تختم أليس روايتها قائلة "لا أعتقد انهما انتحرتا كما تردد ، بل كان مجرد تسمم بسبب الجرذان، او ربما بسبب تناول وجبة تحتوي على مواد سامة ، لا أعتقد أن صولا قد انتحرت لأنها كانت محبة للحياة ، وربطتها علاقة قوية بمدينتها بني ملال ، لذلك رفضت الهجرة عندما غادر معظم اليهود المغاربة من هنا وفضلت البقاء في المدينة مع ديبورا ولم تتزوج قط".
يروي الصحافي محمد الحجام تفاصيل أخرى ويخلص إلى خلاصة مختلفة.
يقول الحجام " صولا وديبورا يهوديتان مغربيتان من اليهود القلائل الذين تشبثوا بالبقاء في بني ملال ورفضوا عملية الترحيل التي أدت إلى هجرة معظم العائلات اليهودية المغربية في بداية الستينيات.
بقيت صولا رفقة عائلتها التي تبنت ديبورا المعاقة ذهنياً بعد رحيل عائلتها. تتحدر صولا من يهود "واويزغت" رحلت والدة صولا ووالدها إيدان، وبقيت وحدها في المنزل رقم 3 الزنقة 7 في "حي المقاومة" بالمدينة القديمة .
كادت زيارتها ذات الطابع الاجتماعي تكاد تقتصر على عمتها إيزة زوجة الليوي أزولاي الثانية .
كان أزولاي من أمهر صانعي "القرشال" بالمنطقة، و له أبناء من زوجته الأولى وأحد هؤلاء كان مديراً لمطار أورلي بفرنسا ، وعلى الرغم من ظروف إبنه المريحة ورغد العيش الذي كان يرفل فيه ، فإن أزولاي رفض البقاء في بفرنسا، وعادا لبني ملال بعد قضاء أقل من شهر هناك. بعد موت الليوي أزولاي بقيت زوجته إيزة عمة صولا تعيش وحيدة في منزلها بزنقة " الهرية" ، وعندما اشتد عليها المرض أغلقت باب منزلها بإحكام بعمود خشب من الداخل حتى يصعب فتحه، وكان موتها في عزلة تامة بمثابة احتجاج على ما أصبحت تشعر به من تهميش بعد رحيل زوجها.
في اليوم التالي تنبهت أسرة مسلمة من جيران إيزة إلى غيابها، وجرى تكسير باب منزلها فوجدوها فوق سريرها تحتضر، ونقلت الى الدار البيضاء ، لكنها فارقت الحياة قبل الوصول إلى هناك ".
يمضي الحجام في روايته قائلاً " تنبهت إدارة الجمعية اليهودية بالدار البيضاء إلى أن صولا لم تسحب الحوالة المالية التي كانت ترسل لها للإنفاق على نفسها وديبورا ، وأجرت الجمعية اتصالات مع السلطات المحلية في بني ملال ، حيث أبلغتهم إنهما لا توجدا في المدينة منذ أربعة أشهر وأن باب المنزل ظل مغلقاً بإحكام طوال أربعة أشهر.صباح الاربعاء الخامس عشر من يناير عام 2014 ، زار بني ملال مبعوثان من الجمعية اليهودية واتجها نحو المنزل الذي تقطن فيه صولا وديبورا يرافقهما مسؤولين من السلطات المحلية والشرطة والوقاية المدنية ، وبعد جهد كبير تم تكسير باب المنزل الذي كان محكم الإغلاق بأربعة اقفال حديدية ، حيث عثر على جثتي صولا وديبورا في حالة جد متقدمة من التحلل ، وبعد تحريات الشرطة العلمية والقضائية لاحظوا عدم وجود آثار عنف أو كسر أو تمزيق للثياب ، كما وجدوا الحلي والمجوهرات ، وكانت إلى جانب الجثتين قطة ميتة كذلك.
نقلت الجثتان للتشريح بالمستشفى الجهوي لبني ملال حيث أخذ الأطباء والشرطة العلمية عينات من أعضاء مختلفة منهما ليتم تحليلهما في المختبرات الجنائية بالدار البيضاء على ضوء فرضية احتمال تناولهما مادة سامة".
يقول الحجام " اثناء إخراج الجثتين من المنزل أنشد الجيران بشكل جنائزي " هادي ساعة من ساعات الله " . مما جعل البعض يتذكر لحظة ترحيل اليهود في بداية الستينيات، حيث كانت لحظات مفعمة بالأحزان والبكاء الذي وصل حد العويل ، بين جميع الجيران مسلمين ويهود ".
يقول الحجام جازماً " مهما تكن نتائج التشريح الطبي بشأن تناول مواد سامة كسبب للوفاة ، المؤكد أن صولا البالغة من العمر 63 سنة ، وابنتها بالتبني أو أختها ديبورا المعاقة البالغة من العمر 50 سنة ، عاشتا مرتبطتين ولا يمكن لصولا الانيقة العازبة أن تترك ديبورا لوحدها وكانت تخشى أن تموت وتصبح ديبورا عرضة للضياع . خصوصا أن حبهما لمدينة بني ملال جعل هجرتهما أو إنتقالهما إلى الدار البيضاء من المستحيلات، مما يجعل فرضية الانتحار واردة باعتبارها الحل من وجهة نظر صولا حتى لا تكون ديبورا عرضة للضياع بعد رحيلها ".