عرض أشغال الملتقى حول الحساب التابع للتشغيل.. النمو الممكن والتحولات الهيكلية للاقتصاد الوطني
الحساب التابع للتشغيل: التجربة الأولى في أفريقيا والرابعة على المستوى العالمي
لقد أتيحت لنا الفرصة في كثير من الأحيان لتسليط الضوء على اتجاه التباطؤ في نمو وإنتاجية الاقتصاد الوطني، وكذلك تحديات سوق الشغل الذي يتسم بالارتفاع المستمر للبطالة وعدم النشاط وانخفاض حصيلة النمو من حيث عدد مناصب الشغل المحدثة. في هذا السياق، أصبح من الضروري اليوم توفر مجموعة من البيانات التفصيلية والمنقحة المرتبطة بمختلف قطاعات الاقتصاد.
لذلك يعتبر الحساب التابع للتشغيل وسيلة تمكن من الاستجابة لهذا المطلب، حيث يربط بيانات التشغيل ببيانات الإنتاج. ويوفر هذا الحساب، الذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط بشراكة مع منظمة العمل الدولية، قاعدة بيانات منسقة ومنظمة حول الطلب على الشغل الذي تعبئه وحدات الإنتاج، كما تمثل إطارا متماسكا لإدماج وعرض متغيرات سوق العمل فيما يتعلق بالبيانات والمجاميع التي يوفرها الإطار المركزي للحسابات الوطنية. وتعتبر هذه المبادرة هي التجربة الأولى في أفريقيا والرابعة في العالم، بعد التجارب في أستراليا وإيران والدنمارك.
ويمكن الحساب التابع للتشغيل من وضع معطيات كل من الإحصاء العام للسكان والسكنى والبحوث البنيوية لدى المقاولات والبحوث حول القطاع غير المهيكل والسجلات الإدارية، والتي تم فحصها، مقارنتها وملاءمتها في إطار متسق وموحد للمفاهيم والتعاريف والتصنيفات.
وبذلك، يمثل الحساب التابع للتشغيل رابطًا بين مجال إنتاج السلع والخدمات المحدد في نظام الحسابات الوطنية لسنة 2008 ومجال التشغيل الذي يتم إنتاج إحصائياته وفق معايير منظمة العمل الدولية.
ومن أجل تحقيق التقارب بين البيانات المتعلقة بالإنتاج والشغل المستخدم للحصول عليه، يمكن الحساب التابع للتشغيل باستخدام مقاربة أكثر تفصيلا من الحصول على مؤشرات جديدة حول الشغل تتعلق بعدد الأشخاص بدوام كامل، والوقت المستخدم في عملية الإنتاج، والأجور التي يتلقونها مقابل قوة العمل. كما توفر بيانات الحساب التابع للتشغيل تفصيلاً يسمح بتحليل بنية عامل الشغل حسب فرع النشاط، القطاع المؤسساتي، الحالة في المهنة، الجنس والفئة السوسيومهنية.
فائض الشغل الفلاحي: مصدر لتوسع الشغل غير المهيكل والشغل الهش
تعكس نتائج الحساب التابع للتشغيل صورة البنية الإنتاجية لاقتصادنا، وتسلط الضوء على الدور الهام الذي لا يزال يلعبه قطاع الفلاحة في تحديد النمو والتشغيل من خلال مساهمته بنسبة 12٪ في القيمة المضافة الاجمالية وتشغيله 39.7٪ من العمالة الإجمالية. وتتميز العمالة في هذا القطاع، الذي لا يعرف تحسنا أو عصرنة سوى بشكل ضعيف، بانخفاض أجورها وكفاءتها وبوضعيتها الغير المهيكلة والتي تشكل 97٪ من إجمالي العمالة في هذا القطاع.
وقد تميز قطاع الفلاحة بالانخفاض المستمر في عدد الأشخاص العاملين، والذي أصبح متكررا مع الظروف المناخية الصعبة التي تواجه بلدنا. وقد أدى تحرير هذا الفائض من اليد العاملة إلى زيادة حجم العمالة في قطاع الخدمات ممثلاً 41.3٪ من العمالة الإجمالية، والذي لا يزال، باستثناء بعض الأنشطة العصرية، تهيمن عليه المهن الصغيرة في التجارة والحرف اليدوية.
وأيضا، يبين الحساب التابع للتشغيل هشاشة ظروف عمل العديد من النساء حيث لا يزال معدل تأنيث الشغل، الذي يصل إلى 29,7٪ على المستوى الوطني، بعيدا عن المساواة. ومن المرجح أن ينخفض هذا المعدل أكثر مع التغيرات في الشغل الفلاحي. وبالفعل، فإن تدني مؤهلات النساء اللواتي تعملن حاليًا وتركيز جزء كبير من الشغل النسوي في المساعدات الأسرية في القطاع الفلاحي يزيد من مخاطر عدم النشاط مع تحرير الفائض من اليد العاملة بالقطاع الفلاحي.
وهكذا، فإن نتائج الحساب التابع للتشغيل تعطي توضيحًا جديدًا لمدى هشاشة الشغل النسوي، والذي يتم تمثيله بشكل ناقص في الشغل الذي يتطلب مهارات عالية من الناحية النوعية والكمية، حيث لا تتجاوز نسبة النساء اللواتي تشغلن مناصب الأطر والتقنيين 15٪ من النساء النشيطات، في حين أن 71٪ من هؤلاء النساء هن عاملات.
ويشكل تراجع نمو الإنتاجية التحدي الرئيسي الذي يواجه التطور الاقتصادي لبلدنا، حيث يتسبب هذا التراجع، الناجم عن التحولات الهيكلية البطيئة والاندماج المحدود للقطاع الصناعي وإعادة توزيع غير فعال للعمل في سوق الشغل، في تباطؤ النمو الممكن لاقتصادنا. في إطار هذه التحديات، يأتي الحساب التابع للتشغيل لتكملة البيانات التي تنتجها المندوبية السامية للتخطيط حول سوق الشغل، حيث تؤكد نتائج هذا الحساب هيمنة العمل المنخفض الأجر، ذي المهارات الضعيفة، والغير اللائق كما تؤكد أيضا المساهمة الضعيفة للنساء في سوق الشغل، كما هو مبين كذلك في مذكراتنا المتعلقة بسوق الشغل.
يتجلى من نتائج الحساب التابع للتشغيل أن إعادة توزيع العمالة بين القطاعات الاقتصادية في صيغتها الحالية لا تؤثر على هيكل الإنتاج وتساهم في استمرار معيقات الإنتاجية والنمو من جهة، وتوفر، من جهة أخرى، بيئة ملائمة لنمو الأنشطة الغير مهيكلة التي تتخلل جميع القطاعات. ويمتد هذا المجال ليشمل كافة الأنشطة من خلال زيادة نسبة العمالة الغير منظمة التي تمثل نسبة 67.6٪ من إجمالي العمالة.
تؤدي هيمنة العمالة الغير منظمة إلى تفاوتات كبيرة على مستوى عدد ساعات العمل والأجور والإنتاجية، حيث يشتغل العاملون غير المنظمين في المتوسط السنوي 145 ساعة أكثر من نظرائهم المنظمين، بينما يحصلون على أجر متوسط أقل بخمسة أضعاف. بالإضافة إلى ذلك، من حيث الإنتاجية الظاهرة للعمل، تظل إنتاجية العاملين المنظمين أعلى 3.7 مرة من إنتاجية العاملين غير المنظمين.
الإنتاجية الضعيفة والضغط على التعويض عن الشغل
نتيجة لهذا التوزيع للعمالة وهذه الفوارق في الإنتاجية أصبح توزيع الأجور أكثر فأكثر تباينا. حيث أن الأجر المتوسط للعامل في قطاع الفلاحة يقل بنسبة 60٪ عن متوسط الأجور في قطاعات الصناعة والخدمات ذات القيمة المضافة المنخفضة ، ويقل بنسبة 77٪ من الأجور في الخدمات ذات القيمة المضافة العالية.
وبالمثل، يكشف تطور الأجور في علاقة بالإنتاجية، عن تباطؤ نمو الإنتاجية، حيث ارتفعت بنسبة 1.9٪ بين سنتي 2014 و2019، دون أن يصاحبها تحسن في متوسط الأجور الحقيقية التي تدهورت على العكس من ذلك بنحو 0.88٪، والتي سيكون لها آثار كبيرة على الطلب الكلي، وهو المحرك الرئيسي للنمو خلال العشرين عامًا الماضية، من خلال تدهور القدرة الشرائية وأهمية حصة الأجور في إجمالي دخل الأسر.
ويظهر هذا التباين في تطور إنتاجية العمالة والأجور بشكل كبير في القطاع الأولي والصناعة والنقل، حيث زادت الإنتاجية بنسبة 4.4٪ و1.1٪ و0.2٪ على التوالي، بالمقارنة مع تراجع متوسط الأجور الحقيقية بنسبة 1.7٪ و0.5٪ و2.1٪ على التوالي. في حين عرفت “الخدمات ذات القيمة المضافة العالية” تراجعا في متوسط الأجر الحقيقي وإنتاجية العمالة، مع تسجيل انخفاض أكبر بالنسبة للأول مقارنة بالإنتاجية.
التحولات الهيكلية: التحدي الأكبر من أجل تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي لبلادنا
تشهد التباينات الكبيرة في الإنتاجية بين مختلف القطاعات وعدم وجود قطاعات متوسطة الإنتاجية وكثيفة العمالة على ظهور ازدواجية اقتصادية تعيق مكاسب إعادة توزيع العمالة التي يحررها القطاع الفلاحي نحو قطاعات ذات أجور أفضل وإنتاجية أكثر، وبالتالي تحد من مساهمة الحركية بين-القطاعية للعمالة في تسريع مسلسل التحولات الهيكلية لاقتصادنا وتحسين إنتاجيته الكلية.
ويدعو هذا الوضع، الذي يوصف بأنه تراجع مبكر عن التصنيع، إلى التساؤل حول دور الصناعة التحويلية في خلق فرص الشغل ودورها كرافعة للنمو المستدام. حيث تعكس بيانات العمالة أعراض تراجع قطاع الصناعة من خلال حصته المنخفضة من إجمالي العمالة والمقدرة ب 11٪، وحصته في القيمة المضافة البالغة 22٪. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي الاندماج المحدود للأنشطة التصنيعية في النسيج الإنتاجي المحلي واعتمادها الكبير على المدخلات المستوردة إلى إضعاف روابطها بين القطاعات مما يسهم في تقليل كثافتها من العمالة والحد من آثارها المضاعفة.
أصبحت مواجهة تحدي العمالة في المغرب أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. فما زال بلدنا يتوفر على نافذة ديموغرافية مهمة والمتمثلة في ولوج عدد كبير من الأشخاص البالغين سن العمل إلى سوق الشغل. إلا أن هذه الفرصة يمكن أن تتحول، بمرد تبديدها، إلى عبء يعيق التوازنات الاجتماعية إذا لم يتمكن الاقتصاد الوطني من زيادة الإنتاجية وخلق فرص شغل مهمة والتي تظل رهينة بنجاح التحولات الهيكلية الهادفة لإنشاء صناعة متوسطة الإنتاجية وأكثر اندماجا في الاقتصاد المحلي، وكذلك بخلق بيئة ملائمة لتحسين النمو والقدرة التنافسية للشركات المنظمة الصغيرة والمتوسطة، مما سيمكن الاقتصاد الوطني ليس فقط من تقليص حجم الاقتصاد غير المهيكل، ولكن أيضًا من تثمين العمل و تكثيف المؤهلات عن طريق التعلم من خلال الممارسة، وتوزيع العمل بشكل أمثل.