فن وثقافة

حكايات يهود بني ملال.. حلقات يكتبها طلحة جبريل (الحلقة الثالثة)

الرباط/ الصحافي والكاتب: طلحة جبريل

"أليس" تتذكر أيام الهجرة.. كانت لحظات كئيبة وعشنا حزناً لا يوصف

تقلصت الطائفة اليهودية في بني ملال، حيث بقي ثلاثة أشخاص فقط، هم "أليس" صاحبة محل الحلاقة والتجميل في"ساحة المقاومة" التي تقع في حي "القصبة"، وشقيقها "موريس"، و"سعدا" التي ماتت قبل ثلاث سنوات، وهي معمرة بلغت من العمر عتياً، حيث يقال إن سنها اقتربت من مائة سنة.

 لم يكن إجراء حوار مع "أليس" سهلاً، إذ رفضت في المرة الأولى أن تتحدث لنا عندما زرناها في صالونها، وقال بعض جيرانها إنها متوترة بسبب مرض زوجها ، وهو مسلم يتحدر من مدينة تطوان، لكن في اليوم الثاني وافقت على الحديث عن الماضي والحاضر. تحدثت عن أسرتها وطفولتها وبعض التفاصيل عن حياتها الحالية  في بني ملال.

على الرغم من أنها تحدثت طويلاً فإنها بدت في حديثها متحفظة. كانت تتحدث بلغة خليط من العامية والفرنسية. تنتقي كلماتها بعناية . يكسو وجهها مسحة حزن عندما تتذكر أسرته وجيرانها من اليهود ، وأيام الطفولة والصبا في الحي الذي كان جزءً من "القصبة".

تتكلم بهدوء كلام الواثق، في نبرتها رنة جذابة، تحدق بانتباه في الشخص الذي يتحدث إليها وكأنها تريد بالفراسة أن تكتشف الآخرين. يمكن أن تقرأ الصعوبات على وجهها ولكن لن تسمعها أبداً على لسانها. تبدو أصغر بكثير من عمرها الحقيقي. تتحدث بثقة. راقية في سلوكها. أنيقة. عصرية. "أليس" جزء من الماضي الذي أصبح حاضراً، إنها متصالحة مع نفسها في الماضي والحاضر. وجودها في بني ملال يشكل عقدة لآخرين وحلاً لها. 

تقول أليس" ولدت في بني ملال وجميع أفراد أسرتي ولدوا في هذه المدينة،  أمي وابي ولدا هنا وماتو ودفنوا  فيها. فتحت أعيني في حي "غدير الحمرة".  في سن السابعة دخلت "مدرسة بن يامين" التي كنا نطلق عليها  "خريوعة".

انتقلت في سن العاشرة للمدرسة المختلطة. كان لدي ستة أشقاء، درسنا جميعاً في المدرسة النظامية، كلما أكمل أحدهم المدرسة يذهب لمدرسة " ليكولوغت" وهي مدرسة أميركية في الدار البيضاء حيث أكملنا دراستنا هناك ، وأختار كل منا أن يتخصص في مهنة ما.

أنا اخترت الحلاقة والتجميل وإخوتي الآخرين كل واحد اختار المهنة التي رغب التخصص فيها".  

بعد أن أكملت "أليس" الدراسة وحصلت على دبلوم الحلاقة فتحت صالوناً لممارسة المهنة.

يوجد  "صالون أليس" في ساحة المقاومة. من الواضح جداً أنها تعتني به كثيراً. صالون أنيق على الرغم من بساطته ، كل قطعة من أثاثه وضعت في مكانها بعناية، في كل جدار من جدران الصالون ثبتت مرايا، لذلك يبدو الصالون  للزائر مكاناً فسيحاً ومريحا. 

تستطرد "أليس" في حديثها عن الماضي فتقول "عاش أهلي وأسرتي الصغيرة، حياة مستقرة ومتسامحة في بني ملال،  وبعد رحيلهم دفنوا في المقبرة اليهودية . عشنا مع العرب المسلمين (المغاربة) في تفاهم وانسجام تام ، كانت علاتنا طيبة ووطيدة  مع سكان الحي ومع الجيران. أتذكر من جيراننا "لالة فاطمة" و"لالة زهور".

عشنا حياتنا مثل حياة الجيران المتداخلة في كل مكان. يلعب الأطفال مع بعضهم بعضاً دون تمييز بين مسلم ويهودي، ويشبون معاً دون  أن يشعروا بأي فرق أو تمييز. كان من المعتاد يوجد منزل عائلة مسلمة إلى جانب منزل عائلة يهودية، وبجوار مسجد المسلمين يوجد السنقوق (الكنيس اليهودي). كنا نزور بعضنا بعضاً بدون إنقطاع  وفي بعض الأحيان نتناول الوجبات معاً. أتذكر أننا كنا نقدم لجيراننا في الأعياد نصيبهم من حلويات العيد والمأكولات التي تطهى في مثل هذه المناسبات.

كان جيراننا بدورهم يحملون لنا في الأعياد الحلويات والمأكولات وأتذكر أنهم كانوا يقدمون لنا " المخامر" والعسل والسمن. ومن جانبنا كنا نتقاسم معهم "لا كاليط" والسمك والفاكهة . كنا نتشارك كل شيء".

تواصل أليس قائلة "ترعرعنا وفتحنا أعيننا في هذه الأجواء ، حيث كان يسود التفاهم بين اليهود والمسلمين، لم نكن نشعر بأي فرق في العادات والتقاليد، أو في التعامل اليومي بيننا ، كان لدي صديقات كثيرات درست معهم أتذكر منهم نزهة وفاطمة الزهراء". 

تتذكر أليس الأيام الحزينة في تاريخ  المدينة فتقول "عندما رحل اليهود من بني ملال كنت صغيرة، أتذكر أن والدي رفضا أن يهاجرا، كانت أياماً كئيبة عشنا حزناً لا يوصف، الكل كان حزيناً لذلك الرحيل. كان الجيران مسلمين ويهود يتباكون وكأنها في جنازة، لم يكن أحد من الجانبين يقبل فكرة  الرحيل والهجرة ".

وتمضي قائلة "كان هناك عدد كبير من اليهود يعيشون في وئام مع جيرانهم المسلمين في المدينة، كان معظم اليهود يقيمون في " حي المقاومة"، عاشوا في سلام مع جيرانهم المسلمين وكانوا يمضون جميع الأوقات مع بعضهم بعضاً يحتفلون بالأعياد والمناسبات ، ولم تكن بينهم أي مشاكل". 

ويمكن الاستنتاج من خلال رواية "أليس" وروايات أخرى ألا أحد من يهود بني ملال كان يفكر في الهجرة.

 في هذا السياق تقول "أليس" بثقة "نشأت هنا وتزوجت هنا ولم أفكر أبدا في يوم من الأيام أن أترك بني ملال أو المغرب".

أحظى حالياً بالاهتمام من طرف جيراني كما كان يحدث ذلك في السابق. لم يتغير أي شئ، في علاقتي أو تعاملي مع المغاربة المسلمين. أعيش رفقة زوجي وابنتي هنا وأخي موريس هاجر  للعيش في إسرائيل، لكن لم يعجبه الوضع هناك وعاد ليعيش هنا، وهو موجود حالياً في بني ملال، كانت تعيش هنا أيضاً "سعدا" التي توفيت منذ ثلاث سنوات تقريبا  عن سن تفوق التسعين سنة، وخلال حياتها ربت فتاة مسلمة وعلمتها الخياطة". 

تزيد أليس قائلاً "أصبحت أنا الوحيدة من أسرتي التي تقيم في بني ملال، كثيراً ما يأتي أفراد أسرتي من إسرائيل أو من غيرها، أستقبلهم وأرشدهم إلى الأمكنة التي كان يقيم فيها يهود بني ملال، وأقدم لهم بعض المعلومات عن ما أتذكره في هذا الصدد". 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

13 − ثلاثة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى