الاختراع التراجيدي للشرق الأوسط
د. منتصر حمادة
نادرة ما اطلع المتلقي العربي على أعمال بحثية غربية تدافع عن قضايا المنطقة، سواء من منظور أخلاقي/ إنساني أو من منظور سياسي/ حقوقي، فالأحرى أن نتوقع صدور أعمال تنتقد المسؤولية الغربية في عديد أزمات مرت منها المنطقة، ولا تزال، لعلها التطورات الدرامية التي نعاينها منذ مطلع 2011، مع اندلاع ما اصطلح عليه إعلامياً على الخصوص، بأحداث "العربي العربي".
كتاب "الاختراع التراجيدي للشرق الأوسط"، يصب في هذا الاتجاه: عمل بحثي، موثق بالأرقام والإحصاءات والخرائط، عبارة عن سفر تاريخي مع التحولات الاستراتيجية التي طالت منطقة الشرق الأوسط، منذ مطلع القرن العشرين بالتحديد حتى مرحلة ولادة تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، المعروف اختصاراً بتنظيم "داعش"، أي إننا إزاء رحلة بانورامية، تمتد إلى قرن تقريباً، (منذ 1919 حتى 2017)، انتصرت لهاجس النقد الذاتي الذي يهم المعالم الكبرى للسياسات الغربية المتبعة في التعامل مع الوضع في المنطقة، سواء تعلق الأمر بسياسات الغربية في مرحلة الاستعمار والانتداب، وبالتحديد السياسات البريطانية والفرنسية؛ أو السياسات الغربية في مرحلة ما بعد الدولة الوطنية في المنطقة، وبالتحديد السياسات الأمريكية.
تفرعت مضامين الكتاب على بابين اثنين، وتفرعت بدورها على ثلاث فصول، وجاءت عناوين الفصول الستة للكتاب كالتالي: "حدود مفروضة"، "نخب معزولة أو وظيفية"، "ثورات مقموعة"، بالنسبة للباب الأول وعنوانه "ولادة درامية"؛ و"دول مُختطفة"، "شعوب مُهمشة"، "تدخلات مُدمرة"، بالنسبة للباب الثاني، وعنوانه "مسارات قاتلة"، واختتم العمل بخلاصة تضمنت تجميعاً لأهم إشارات عمل ألفه بيار بلان وجان بول شانيولو. الأول أستاذ باحث في القضايا الجيو ـ سياسية، بجامعة بوردو الفرنسية، وهو أيضاً، رئيس تحرير مجلة "ملتقيات متوسطية"؛ والثاني بروفيسور [أستاذ فخري]، ومدير معهد الأبحاث والدراسات المتوسطية والشرق أوسطية، ومقره باريس.
خُصّص الباب الأول لأولى للولادة التراجيدية لدول المنطقة، في غضون عشرينات القرن الماضي، مع تسليط الضوء على أدوار وسياسات صناع القرار الدولي حينها، في لندن وباريس؛ أما الباب الثاني، فقد توقف فيه بلان وشانيولو في الفصل الرابع عند التطورات السياسية التي عرفتها ثلاث دول: سوريا والعراق ولبنان، مع تحول التأثير الدولي من بريطانيا وفرنسا نحو الولايات المتحدة، ومن نتائج ذلك التحول، إعاقة تطور المشاريع الوطنية في المنطقة، وتغذية المشاريع الطائفية المنغلقة، قبل التوقف عند واقع التشرذم الذي مرت منه بعض شعوب المنطقة، وبالتحديد الحالة الفلسطينية والحالة الكردية في الفصل الخامس من الباب؛ أما الفصل السادس والأخير من العمل، فتوقف ملياً عند الآثار السلبية للمُحددات الأجنبية على المنطقة/ وهي المُحددات التي كرست حالة التشرذم السائدة اليوم، مع فارق يهم المُحدد الأجنبي، مفاده أن "القوى العليا" كان مصدرها أوروبا من قبل، ولكن مصدرها اليوم أمريكا، ولو أن حقبة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما تميزت بعودة النفوذ الروسي، من باب رد الاعتبار لأفول الاتحاد السوفياتي، وتميزت أيضاً حقبة العقود الأخيرة، بتصاعد نفوذ قوى إقليمية، أهمها النفوذ السعودي والنفوذ الإيراني.
يرى المؤلفان أن قراءة التطورات الميدانية التي تمر منها المنطقة سنوات قليلة بعد اتفاقية سايس بيكو، تقتضي أولاً، تأمل مؤتمر باريس للسلام الذي نُظم في العام 1919 ، وتأمل طبيعة النخب العربية والكردية التي حضرت حينها، فقد نجح البريطانيون في الاستفادة القصوى من منعطف "سايس بيكو"، عبر الاحتفاظ بالتحكيم في مجال الموصل وفلسطين، موازاة مع ذلك التعامل، كانت فرنسا قوة إقليمية وازنة شرق أوسطياً، لذلك كان ضرورياً تقويض نفوذها، فكانت النتيجة معاينة حالات من الاشتباك الدبلوماسي بين القوتين.
كان الأمر مختلفاً من القوى العربية، بمقتضى علاقة القوي بالضعيف،فمن جهة، هناك قوة إمبريالية نافذة ومُتحكمة، كانت تفرض بالقوة خيارات استراتيجية على شعوب المنطقة، كما تمت ترجمة وعد بلفور على أرض الواقع ليتم الإعلان عن عش قومي يهودي في عقر فلسطين؛ ومن جهة ثانية، ظفرت فرنسا بتأسيس لبنان الكبير، فيما اعتبر حينها فوزاً لمسيحي لينان، دون أن يتم الانتباه إلى تبعات هذه الخطوات الدولية الاستراتيجية على شعوب وأنظمة المنطقة لاحقاً.
من مؤاخذات العمل على العقل الإمبريالي، في تجلياته البريطانية والفرنسية، كونه ينهل من رؤى استشراقية تقليدية، ترى أن الغرب قائم بأفق حضاري توسعيي، مطلوب منها زميناً مزيد هيمنة على شعوب العالم من أجل مساعدتها على "التحضر"، والتعامل مع هذا المعطى على أساس أنه معطى طبيعي، وهي عقلية، حسب بلان وشانيولو، تصرف النظر طولاً وعرضاً عن المنافع الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية الكبيرة التي تقف وراء حملات التوسع الإمبريالي.
ومن نتائج هذه الاعتقادات الإمبريالية، السقوط في ثلاث مفارقات وتباينات بين الوضع العربي والوضع التركي:
1 ــ تمّ قمع جميع انتفاضات شعوب المنطقة، باستثناء انتفاضة الأتراك، على عهد مصطفى كامل، ولكن مع وجود عدة فوارق بين الحالةالتركية والحالةالعربية: فالأتراك مثلاً، كانوا تحت إمرة كاريزما، محاطة بما لا يقل عن 200 ألف من المجندين، ولديهم تجربة بينما كان الأمرمختلفاً كلياً مع الجيوش العربية، التي بالكاد كانت تضم بضع آلاف.
2 ــ على صعيد آخر، لم يكن هاجس الأتراك تأسيس دولة، لأنها قائمة اساساً، بل كانت إمبراطورية، وإنما كان هاجسهم صيانة الدولة، أو ما تبقى من الإمبراطورية، بينما الأمر مختلف مع الحالة العربية، التي كانت أغلب نماذجها حينها تحلم بتأسيس الدولة الوطنية، مادامت واقعة تحت نير الاستعمار أو الانتداب.
3 ــ نأتي للفارق الثالث، لقد كان مفهوم الأمة التركية واقعاً لا يرتفع في مخيبل الملايين من الرجال والنساء الأتراك، وليس في مخيال نخبة سياسية مُعينة؛ بتعبير آخر، تشييد مفهوم الوطنية كان شبه منتهياً في الحالة التركية، ولكنه بالكاد كان في البداية بالنسبة للعالم العربي، وهو ما كرسته رؤى الأمير فيصل في العام 1920.[ص 69]
"حرب الكل ضد الكل"، هو أولى العناوين الفرعية التي جاءت في الباب الثاني من الكتاب [ص 73]، وهو عنوان يُلخص واقع الفتن القائمة في سوريا والعراق ولبنان طيلة العقود الثلاث الأخيرة، ولو أن لبنان ابتعدت نسبياً عن الفتن، ومعلوم أن هذه العبارة/ المقولة تعود لتوماس هوبز، الفيلسوف البريطاني، ومعلوم أيضاً، أن سياق صدور العبارة ومعها أعمال هوبز[1588-1679]، يرتبط بحقبة اضطرابات سياسية ومجتمعية مرّ منها الإنجليز بها، وأفضت، كما نعاين اليوم في الشرق الأوسط، من قلاقل الحروب الطائفية، ومن هنا دلالات الاستعارة التي لجأ إليها بلان وشانيولو.
ففي سوريا مثلاً، عنوان المرحلة الحالية هو إطالة عمر الاستقطاب الطائفي الحادة، وهو استقطاب يمتد منذ 2012، أي سن اندلاع الحرب الأهلية، بين نظام بشار الأسد، والحركات الإسلامية "الجهادية" التي تجاوز سقفها القتالي، سقف أولى تيارات المقاومة بزغت للوجود في أولى مراحل الحراك السوري. وزاد الوضع الطائفي تعقيداً في سوريا، دخول أطراف خارجية، من باب نُصرة هذه الفصائل الدينية الطائفية أو تلك، وبالتحديد الطوائف السنية والشيعية، ومن ذلك "تورط إيران في دعم الرئيس بشار الأسد في الحرب الأهلية السورية التي اندلعت ابتداءً من 2012، مساندة حزب الله وحلفاءه الشيعة في العراق ضد تنظيم "داعش" .
خُصّص الفصل الخامس للتوقف عند مصير بعض شعوب المنطقة، والتي ناضلت من أجل إقامة دولة أو الظفر بما بحُكم ذاتي، مع التوقف بالتحديد عند الحالتين الفلسطينية والكردية، ولو أنه تم تسليط الضوء أكثر على الحالة الأولى، بالصيغة التي تُترجمها مثلاً، كثرة الخرائط والوثائق التي تضمنها هذا الفصل، والتي أبدعت في إخراجها كلير لافاسور.
يكفي تأمل الخرائط التي تضمنها الصفحة 110 من العمل، والتي تظهر التحول الكبير في مساحة الوجود العربي الفلسطيني في المنطقة، بين مرحلة ما قبل 1978، واليوم، مروراً عبر تحول 1948 [تأسيس وقيام إسرائيل]، حيث ناهزت النسبة 47 في المائة من حقبة ما قبل 1974، ومنعطف 1967-1993، حيث انتقلنا إلى نسبة ناهزت 22 في المائة مقارنة مع مساحة ما قبل 1967، أما اليوم، فتناهز النسبة 10 في المائة.
ولو توقفنا عند الحالة الفلسطينية مثلاً، وزيادة على الأدوار التاريخية (الاستراتيجية والأمنية والسياسية) التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية، بعد انتقال مركز الثقل الأممي في التأثير على شؤون المنطقة، من بريطانيا وفرنسا إلى أمريكا، توقف المؤلفان عند أعطاب فلسطينية ذاتية، أهمها حالات الانقسامات والصراعات الداخلية، والتي أفضت إلى وقت قريب، إلى تقسيم الوجود الفلسطيني على الضفة الغربية وقطاع غزة .
تفيد الخلاصة الجامعة للعمل، وتهم المنطقة ككل، أن الحل الأمثل لا يخرج عن احترام القانون الدولي، وهذا يقتضي من الدول الغربية المؤثرة في صناعة القرار الضغط على إسرائيل لكي تترم المواثيق الدولية، وخاصة قرار إدانة الاستيطان الإسرائيلي رقم 2334 الذي صوت عليه مجلس الأمن يوم 23 ديسمبر 2016: على إسرائيل أن تقتنع بأنه يأتي اليوم الذي تنسحب فيه من الأرضي المحتلة منذ 1967، بما في ذلك القدس الشرقية.
1 ــ في الحالة السورية، ثمة إجماع من لدى فرقاء الصراع القائم اليوم، على أهمية الحفاظ على الوحدة الترابية، من أجل تفادي تقسيم جديد للأراضي السورية، بما في ذلك إجماع أكراد سوريا، من الذين بالكاد يطالبون بما يُشبه حكم ذاتي في شمال البلاد، ولا يرفعون شعار الانفصال على غرار الحالة الكردية في العراق، مع دعوة العمل لأهمية تفادي تكرار سيناريو فرنسا 1920، والذي سيُكرس بشكل أكبر واقع الانقسام الطائفي، وبالتتالي يُغذي نزعات انفصالية داخل سوريا، بما يساهم في تأزيم المشهد الجيوـ سياسي للمنطقة ككل.
2 ــ في العراق: لا زال التأسيس للوحدة الوطنية متواضعاً، رغم بروز هوية عراقية، عبر مراحل خلال عقد ونيف، ولكنها هوية تمت على حساب مطالب الأكراد الذين تعرضوا مراراً لحملات قمع.
3 ــ وأخيراً، بالنسبة للحالة الفلسطينية، لا مفر من تأسيس دول وحدة وطنية، مع استرجاع الأرضي المحتلة منذ 1967، وبالنسبة لباقي دول المنطقة، لا مفر من احترام السيادة الوطنية، والخضوع لقرارات المنتظم الدولي، شرط أن تكون قرارات مُنصفة، وتدافع عن حقوق الأفراد والأقليات والمؤسسة في آن لقيم المواطنة، ولكن حتى لا نسقط في الأوهام، يجب الإقرار بأنه على المدى القريب، الانسدادات الإيديولوجية وإرادات القوى العظمى، التي تتعامل مع الأوضاع هناك من باب "صراع الوجود"، تحول دون توقع انفراجات حقيقية في سحاب الأزمات القائمة. ولكن على المدى المتوسط البعيد، هذا المنطق السياسي غير السوي، لم يعد يُحتمل، لأنه يُكرس المزيد من التأزيم، ويُغذي أزمات دولية، ويكفي تأمل وضع الشرق الأوسط. [ص 146]
كتاب "الاختراع التراجيدي للشرق الأوسط" مفيد للجميع في المنطقة: لصناع القرار والباحثين والإعلاميين، ويُحسبُ له [على الأقل] تلخيص أهم معالم التدبير الغربي الأورو ـ أمريكي لقضايا الشرق الأوسط، كما يُساعد المتلقي على استحضار الخلفيات السياسية والأمنية والاستراتيجية لأحداث الساعة، والتي لم تصدر من فراغ أو بشكل عبثي، وإنما ثمة عدة مقدمات تاريخية، ومتجذرة، ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في حالة التصدع الذي طال منطقة الشرق الأوسط بالأمس واليوم.