الدار/ افتتاحية
الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس أمس الجمعة بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة يستحق أن يحمل لقب البيان الاجتماعي بامتياز بعد أن خصّصه جلالته لإعلان تاريخي يتعلق بتفعيل برنامج الدعم الاجتماعي المباشر ابتداء من نهاية السنة الجارية تجسيدا لقيم التضامن الراسخة عند المغاربة. ووجْهُ الاستثناء في هذا الإعلان هو أنه يقدم أول برنامج من نوعه منذ استقلال المغرب سنة 1956. هذه هي أول مرة يعلَن فيها رسميا عن تقديم تعويضات اجتماعية منتظمة لفئات المهمّشين ومنعدمي الدخل من الميزانية العامة للدولة وبإشراف وتنظيم مؤسساتها وأطرها.
هذا البرنامج الاجتماعي الذي سيشمل الأطفال في سن التمدرس، والأطفال في وضعية إعاقة؛ والأطفال حديثي الولادة؛ إضافة إلى الأسر الفقيرة والهشة، بدون أطفال في سن التمدرس، خاصة منها التي تعيل أفرادا مسنين يؤكد مسارا اجتماعيا بدأه جلالة الملك محمد السادس منذ 2005 تاريخ إطلاق أكبر مبادرة تنمية بشرية شهدتها القارة الإفريقية والعالم العربي. المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تقترب من عامها التاسع عشر كانت عنوانا للنهج الاجتماعي للملك الذي تكرّس على مدى سنوات وانبعث بقوة خلال أزمة جائحة كوفيد 19 التي شهدت إطلاق برامج دعم اجتماعي استثنائية ورعاية صحية شاملة. وبعدها جاء إطلاق ورش تعميم الحماية والتغطية الصحية ليضع الدولة الاجتماعية على سكتها الصحيحة.
والشروع في تفعيل برنامج الدعم ابتداء من نهاية السنة الجارية يؤكد أن الإرادة السياسية العليا في بلادنا أضحت واثقة من أن تخفيف أشكال المعاناة الاجتماعية والإقصاء والتهميش ضد بعض فئات المجتمع هو السبيل الأمثل لتعزيز مكانة المغرب وتطوير مؤهلاته في شتى المجالات، لا سيّما أن بلادنا تشهد بموازاة مع ذلك تطورا هائلا على أصعدة التنمية الصناعية والسياحية والاقتصادية بشكل عام. لكن النزعة الاجتماعية للدولة التي تجددت بقوة منذ الجائحة تتخذ اليوم شكلا مؤسساتيا مختلفا. هناك عمل دؤوب تقوم به مصالح وزارة الداخلية والإدارة الترابية يخص إعداد السجل الاجتماعي الوطني الذي يعد في حد ذاته وثيقة هامة للغاية فيما يتعلق بتوظيف البيانات في التدبير الأمثل لأدوار الدولة ووظائفها.
والذي يعطي لهذا الإعلان الملكي الذي شهدته قبة البرلمان أهميته التاريخية البالغة هو أنه يأتي أسابيع قليلة فقط بعد كارثة زلزال الحوز التي ضربت بلادنا مؤخرا وأدت إلى خسائر بشرية ومادية هائلة. لقد كان من الممكن أن تسبب هذه الكارثة في بعض البلدان الأخرى تعطيلا لكافة المشاريع والأوراش والبرامج الاجتماعية إلى حين تجاوز تداعيات الزلزال والتخفيف من انعكاساته، لكنّ الذي حدث اليوم يؤكد أننا أمام إدارة وتدبير محكمين. لقد تم التعامل مع كارثة الزلزال بمقاربة سريعة من خلال رصد الميزانيات اللازمة وإطلاق برامج إعادة الإيواء والتكفل وتحديد صيغة التعويض وإعادة الإعمار، وبعد هذا كلّه تصرّ الدولة المغربية على الوفاء بالموعد فيما يتعلق بتفعيل برنامج الدعم الاجتماعي.
صحيح أن الخصاص هائل والانتظارات لا حدود لها بسبب تراكمات السنين، لكننا على الأقل نستطيع اليوم أن نتفاءل بهذه الإرادة الاجتماعية الخالصة التي أضحت تحكم الكثير من البرامج والقرارات والتوجيهات. وهي إرادة نابعة بالأساس من هذا الارتباط الراسخ بين الملك وبين كافة فئات المجتمع، وهو الذي بدأ مسيرته على عرش البلاد بلقب ملك الفقراء قبل أكثر من 23 عاماً. ولعلّ اختيار جلالته الإعلان عن هذا البرنامج الاجتماعي من داخل قبة البرلمان إشارة ذات أهمية بالغة إلى نواب الأمة الذين يتحملون مسؤولية تشريع القوانين من أجل المزيد من العمل على تأهيل الترسانة القانونية المعززة للحقوق الاجتماعية للمواطنين، لا سيّما أن تفعيل هذا البرنامج سيتم وفقاً للقانون الإطار المتعلق بالحماية الاجتماعية الذي يعد من أهم النصوص والقوانين التي أنتجتها المؤسسة التشريعية منذ تأسيسها.