الإسلاميون واليساريون بالمغرب.. بين التحالف السري والعلني
الرباط/ الدار
بين الإسلاميين واليساريين في المغرب أمواج من الحب والكراهية تتجاذبها الظروف السياسية والتاريخية. فبينما كانت التيارات الاشتراكية المعارضة لسنوات طويلة تصف الحركات الإسلامية بالخنجر الذي صنعته الدولة وأغمدته في ظهرها تقلبت الظروف والملابسات ليتحول ثأر الأمس إلى حلف اليوم ويلتئم في حكومة واحدة اليساري التقدمي مع الإسلامي المحافظ يحتضن بعضهما البعض ويدافع بعضهما عن الآخر. وتجسد تجربة العلاقة بين حزب التقدم والاشتراكية وحزب العدالة والتنمية في الحكومة السابقة والحالية نموذجا لذلك العشق الممنوع الذي تحقق عقب التحول السياسي الكبير الذي أعقب الربيع العربي وظهور حركة عشرين فبراير.
فرغم أن اليساريين يلوكون باستمرار ادعاء الخط الأحمر في العلاقة مع الإسلاميين إلا أن التجربتين الحكوميتين الأخيرتين، اللتين ضمتا بالإضافة إلى التقدم والاشتراكية حزب الاتحاد الاشتراكي، أكدت أن العداء التاريخي بين إيديولوجيا الإسلام السياسي وإيديولوجيا الاشتراكيين ليس حتمية نهائية. هذا لا يعني أن كل اليسار يخطب ود الإسلاميين في المغرب، فبالنسبة لليسار غير الحكومي الذي تمثله فيدرالية اليسار لا يزال تحريم التحالف مع الإسلاميين موقفا مبدئيا ورصيدا سياسيا للتيارات الملتئمة داخل الحزب. في الانتخابات المحلية والتشريعية الأخيرة ألزمت الأحزاب المشكلة لفيدرالية اليسار مرشحيها بعدم التحالف مع حزب العدالة والتنمية في البرلمان أو في تدبير المجالس الجماعية.
لكن ما الذي يدفع بعض الأحزاب اليسارية كالاتحاد الاشتراكي أو التقدم والاشتراكية إلى القبول بتحالف يضم حزبا إسلاميا؟ التفسير الأساسي هو نتائج الانتخابات. لقد فقدت الأحزاب اليسارية والاشتراكية تفوقها الانتخابي منذ زمن وتراجعت على مستوى حضورها البرلماني سواء في الحكم أو المعارضة وأضحى التحالف مع الإسلاميين اضطرارا لا اختيارا. فحزب الاتحاد الاشتراكي الذي يمثل حزبا وطنيا برصيد تاريخي طويل ورموز نضالية شهيرة قبل المشاركة في الحكومة الحالية مقابل حقائب وزارية محدودة نظرا لتراجع مكانته البرلمانية. وحصل حزب المهدي بن بركة في الانتخابات الأخيرة على عشرين مقعدا وهي أضعف حصيلة له منذ سنوات طويلة. لكن هل تعني المشاركة في الحكومة يقودها الإسلاميون التحالف معهم؟
لقد ظهر إبان البلوكاج الحكومي أن هناك معارضة كبيرة لحزب العدالة والتنمية لإدماج حزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة وظهر أن عزيز أخنوش زعيم حزب الأحرار والحليف الرئيسي في تشكيل الحكومة كان له دور أساسي في فرض الاشتراكيين على التشكيلة الحكومية الجديدة. هذا يعني أن التحالف الذي نتحدث عنه في هذه التجربة لا يعدو أن يكون اندماجا ولا يرقى إلى درجة التحالف الموضوعي والمبدئي الذي يتوافق فيه الحزبان على المواقف والانحيازات السياسية. تحالف العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي في الحكومة أشبه بزواج قسري لصيانة الشرف. وهي صورة مخالفة تماما لعلاقة حزب التقدم والاشتراكية بالعدالة والتنمية والتي تميزت بقدر كبير من الوفاء والنضال المشترك رغم كل الغيوم التي عبرتها في الآونة الأخيرة.
لكن أكبر تجربة يمكن القياس عليها فيما يخص العلاقة بين الإسلاميين واليساريين هي تجربة حركة عشرين فبراير. في 2011 التأم التيار اليساري بكافة أطيافه وأفراده ليلتحق بتيار جماعة العدل والإحسان أكثر الجماعات الإسلامية تنظيما، ويشكلا معا حركة احتجاجية استمرت لشهور. لكن هذا التحالف الهش كان في حد ذاته سببا مباشرا في إسقاط حركة عشرين فبراير ونهاية سيرورة الاحتجاجات. فرغم التحالف الموضوعي الذي ظهر في البداية بين اليسار الراديكالي وجماعة ياسين سرعان ما طفت على السطح الخلافات المبدئية الجوهرية بين تيارين بسقف مطالب مختلفة إن لم نقل متناقضة، فبينما كان نشطاء الجماعة يتوجهون نحو التصعيد كان أعضاء اليسار يميلون إلى تحديد سقف معين للمطالب بدل تركها مفتوحة.
هذا التباين في الانتظارات والمطالب يعتبر نقطة خلاف جوهرية بين الأحزاب اليسارية والجماعة الإسلامية الممثلة في العدل والإحسان. وهذا ما عبر عنه بصراحة الباحث في العلوم السياسية محمد الساسي عضو الحزب الاشتراكي الموحد عندما تحدث عن التحالف الذي طفا على السطح مؤخرا بين حركة النهج الديمقراطي التي تمثل اليسار في أقصى تطرفه وجماعة العدل والإحسان. لم يتردد الساسي في القول إن "هذا النوع من التحالفات هو الطريق إلى سوريا لا يكفي أن نكون متفقين على ما نرفض بل يجب أن نتفق على ما نبني، فهما في نفس الحافلة لكن هناك طرف يريد التوجه بالحافلة إلى الخلف والطرف الآخر يريد التوجه إلى الأمام".
هذا التحليل الذي قدمه المعارض اليساري محمد الساسي يظهر أن هناك خلافات بنيوية بين التيارين الإسلامي واليساري في المغرب لا يمكن تجاوزها بمجرد تطابق وتشابه الأهداف والغايات. فالتحالفات الحكومية تبقى مرحلية وظرفية ولا أدل على ذلك الأزمة التي تمر بها علاقة حزب الكتاب بحزب المصباح. كما أن التشرذم الذي يعيشه اليسار بين الحكومي وغير الحكومي، والراديكالي والمعتدل، يجعل فكرة بناء تحالف مع الإسلاميين من المشاريع السياسية المعقدة جدا. هذا الوضع الذي يعيشه التياران في المغرب لا يختلف كثيرا عما هو عليه في شمال إفريقيا عموما.
ففي الجزائر تعتبر ورقة التيار الإسلامي ورقة متجاوزة ومحروقة في الحراك الحالي الذي تعيشه البلاد. ويتوخى الإسلاميون الذين تحالفوا مع النظام الجزائري لسنوات منذ تحقيق الوئام المدني وتلطخوا بملوثات المصالح والفساد، الحذر في الظهور في واجهة الحراك نظرا لرصيدهم السياسي المهزوز في أوساط الشباب. كما أن اليسار يعاني بدوره من تراجع صيته ومكانته التاريخية، ولا تعتبر تجربة المغرب مصدر إلهام مفيد للتجربة الجزائرية نظرا لاختلاف الظروف. كما أن الوضع في تونس يحتمل خصوصية متميزة بالنظر إلى النضج الذي تمتلكه الطبقة السياسية هناك حيث لا يتردد الإسلاميون في التحالف مع كل التيارات أيا كان توجهها.
من المؤكد إذا أن التحولات الظرفية التي تعرفها المنطقة لن تتأثر تأثرا كبيرا بإمكانية تحالف يساري إسلامي رغم كل العناوين الإعلامية البراقة التي تتحدث عن "اليسار الإسلامي" أو "الإسلام اليساري". فتركة الماضي المليئة بمشاهد الثأر والأحقاد بين التيارين لا تزال تحتل حيزا هاما من النظرة السياسية للطرفين.