غزو غزة.. كيف عاد نابليون خائبا من فلسطين
الدار/ فردوس الزعيم
نابليون بونابرت، القائد الفرنسي الشهير، الذي كان يسعى جاهدًا لبناء إمبراطورية فرنسية تتفوق على القوى العظمى الأخرى في أواخر القرن الثامن عشر، مثل القوى العثمانية والبريطانية المتصاعدة، كان حريصا على احتلال غزة وإخراج العثمانيين منها، لا سيَّما القائد الشهير أحمد باشا الجزَّار الذي كان يحكم عكَّا وكامل الأراضي الفلسطينية وجنوب بلاد الشام.
ومن قبل ثورة فرنسا في عام 1789، كانت بناء إمبراطورية كبرى حلمًا يدور في خيال نابليون. وقد يُذكر أنه وضع خطة لتحقيق هذا الحلم، بدءًا من النزول إلى مصر ثم استيلاء على فلسطين وبلاد الشام والأناضول، وإسقاط الدولة العثمانية، قبل أن يتجه نحو قارة أوروبا لمواجهة القوى الرجعية هناك، مثل الإمبراطورية النمساوية.
في يوليو 1798، انطلقت الحملة الفرنسية على مصر، وقد واجهت مقاومة شديدة من أهل الإسكندرية. بعد ذلك، تقدمت القوات الفرنسية عبر الدلتا جنوبًا، مارسة أساليب قمعية ضد الفلاحين المصريين. وعندما وصلوا إلى سفح الأهرامات، دمروا المماليك وقضوا عليهم بأسلحتهم الحديثة والمدافع، بأمر مباشر من نابليون.
وبعد تأكيد سيطرته على مصر، بدأ نابليون بالتخطيط للخطوة التالية في استراتيجيته الطموحة، وهي الاستيلاء على فلسطين وسوريا. كان يدرك جيدًا أهمية غزة كمفتاح للوصول إلى مصر، وفي الوقت نفسه كبوابة لمنطقة الشام.
في ربيع عام 1799، أطلق نابليون قواته لغزة، التي كانت تحت سيطرة ولاية أحمد باشا الجزَّار، والتي كانت وقتها تابعة لفلسطين وجنوب الشام العثماني. وعندما وصلت قواته إلى أسوار غزة، أرسل منشورًا إلى سكانها يُظهر أنه جاء لتحريرهم من الحكم العثماني وسياسة الظلم التي كانت تنتهجها المماليك.
المنشور، الذي يُعتقد أنه كُتب على يد مستشرق فرنسي، كان يحمل كلمات تُظهر الخداع والمكر. وبعد تأمين ثقة السكان، استمر نابليون في خططه بإظهاره للناس أنه يدافع عن دينهم وعاداتهم، وأنه جاء لمحاربة المماليك وليس السكان. هكذا، كشف نابليون للعامة ما كان يخفيه من خطط طموحة لإسقاط الدولة العثمانية وعدم عودة مصر إليها.
نابليون كان على علم تام بأن من يسيطر على مصر لن يكون آمنًا إلا إذا استولى أيضًا على سوريا وفلسطين. استفاد نابليون من ضعف الدولة العثمانية، التي كانت تحكم المنطقة آنذاك، حيث كانت البلاد خالية تقريبًا من القوات العثمانية الدفاعية.
في عام 1799، أُرسل نابليون بقواته للاستيلاء على غزة، رغم محاولات المقاومة من قبل الجزار في منطقة العريش، إلا أن الجيش الفرنسي المدجج بالعتاد المتقدم والمدافع الحديثة نجح في هزيمتهم واقتحام غزة.
بعد دخوله المدينة، قام نابليون بتدمير العديد من المعالم الحضارية في غزة، مثل البيمارستان وجامع الجاولي ومدرسة قايتباي والمدرسة الكمالية وجامع القلعة وزاوية الشيخ محمد أبي العزم. ربما كانت هذه الخطوة جزءًا من خطته لتشتيت الأهالي وتأمين ظهره أثناء تقدمه نحو بقية المدن الفلسطينية وبلاد الشام.
بعد تأمين ظهره في غزة، شرع نابليون في استكمال غزوته، فتوجه نحو مدينة الرملة وتمكن من احتلالها بسرعة. ثم انطلق نحو مدينة يافا، حيث واجه مقاومة شديدة من الدفاعات العثمانية والعربية التي بلغت حوالي 12 ألف مقاتل. لكن بفضل مدافعه الثقيلة، نجح نابليون في السيطرة على المدينة، وخلال هذه المعركة، أمر بإطلاق النار على آلاف الأسرى، مما أثار غضبه وانتقاده لوحشية الحرب.
في تقريره إلى حكومته في باريس، وصف نابليون هذه المجزرة بأنها لم تكن لها مثيل من قبل، وأشار إلى الظروف القاسية التي مرت بها المعركة. بعد الاستيلاء على يافا، كان الجميع يتوقع أن يتوجه نحو القدس، لكنه فضل التركيز على المدن الساحلية بسبب قوة الدفاعات العثمانية والعربية في تلك المنطقة.
على الرغم من هزائمهم المتتالية، فإن سكان فلسطين لم يستسلموا بسهولة. عندما حاول نابليون التقدم نحو عكا، وجد نفسه مواجهًا لمقاومة شديدة من الجيش العثماني وقوات الباشا الجزار. لم يكن هناك لحظة راحة خلال هذه الصراعات، واستمرت المواجهات العنيفة لمدة ستين يومًا، حيث حاولت القوات الفرنسية بكل جهدها اختراق أسوار المدينة وتحييد الدفاعات العثمانية. وبالرغم من محاولاتهم الدؤوبة، إلا أن أهل عكا وقوات الجزار باشا بقواتهم واصلوا المقاومة بكل شجاعة واستمروا في صد الهجمات الفرنسية.
المقاومة الفلسطينية لغزو نابليون وقواته كانت قوية ومنظمة، وتجلى ذلك في استجابة الناس لنداء الجهاد الذي أطلقه القاضي الشيخ موسى الخالدي، والذي حثهم على مواجهة الغزاة الفرنسيين. تجمع المقاتلون في مناطق عدة مثل قاقون وعزون وجبال نابلس ومرج بني عامر، وشنوا هجمات على فرق الجيش الفرنسي، حيث نجحوا في إلحاق خسائر بهم وصد هجماتهم في عدة مواقع.
أحاطت المقاتلون بفرقة الجنرال كليبر وقاتلوها عند قرية طور زيتا، وأيضًا عند جبل طابور وقرية الفولة في مرج بني عامر. في هذه المواجهات، كانت المعركة شديدة الحدة، وكاد الجيش الفرنسي أن يهزم لولا تدخل نابليون بسرعة، مما ساعد في تحقيق النصر لقواته. استطاع نابليون السيطرة على مدن صفد وطبرية وجنين، ومن ثم عادت قواته لدعم الحصار على عكا.
ومع تصاعد المواجهات وظهور الطاعون في صفوف جيش نابليون، بالإضافة إلى المقاومة الشرسة من أهل عكا وصمودهم لمدة ستين يومًا، أدرك نابليون صعوبة مهمته في فلسطين. ففي ظل هذه الظروف الصعبة، أصدر قراره بالانسحاب والرجوع بقواته إلى مصر في مايو 1799م.
خلال عملية الانسحاب، قام أهالي الجبال في فلسطين بالهجوم على الجيش الفرنسي المنسحب على طول الطريق الساحلي، واستفادوا من معرفتهم بالمنطقة لشن هجمات مفاجئة. كما تطوع السكان في جبال القدس ونابلس وغزة للمشاركة في مواجهة القوات الفرنسية المتناثرة.
وفي رد فعل على هذه المناوشات، قامت القوات الفرنسية بحرق القرى وتدميرها، في تصعيد للعنف ضد المقاومة المحلية. وفي هذا السياق، قام الشيخ محمد بن بدير بكتابة قصيدة طويلة تحكي عن هزيمة نابليون في فلسطين أمام أسوار عكا، مما رمز إلى نهاية طموحاته في المنطقة.
تُظهر هذه الأحداث التفكير الاستراتيجي لنابليون واعترافه بأهمية غزة كمفتاح استراتيجي بين آسيا وأفريقيا. وقد أدرك القائد الفرنسي أهمية المعركة الشرسة التي خاضها أمام قوات الجزار باشا، والتي تجلى فيها الصراع بين القوى العالمية المتنافسة.