فصل المقال في انتهاك وزير الأوقاف لقاعدة ما لا يُقال
الدار/ تحليل
أحمد التوفيق أحد أقدم الوزراء في الحكومة الحالية، إذ مضى على تحمّله مسؤولية هذا القطاع أكثر من 22 عاما، وهي فترة زمنية طويلة جدا سمحت له بمراكمة خبرة واسعة في إدارة الحقل الديني، وهندسة الإصلاحات التي شهدها هذا المجال، وبلورة رؤية واضحة للتصدي لكل أشكال التطرف والمغالاة التي عرفها العالم الإسلامي على مدار العقدين الأخيرين، وانعكست أيضا على المغرب. ساهم وزير الأوقاف منذ توليه هذه المسؤولية في ظرفية حساسة في إرساء عملية إعادة هيكلة الحقل الديني، وكان له فضل كبير في تنزيل العديد من المبادرات المهمة التي شملت تدبير الشأن الروحي ببلادنا، وتثبيت جسور التواصل مع العمق الإفريقي للمغرب.
ومع كل هذه الخبرة والخلفية العلمية والأدبية التي يمتلكها الرجل فإن ذلك لم يجنّبه الوقوع في زلّة تواصلية خطيرة، عندما قال لوزير الداخلية الفرنسي إن المغرب بلد علماني. مشكلة هذا التصريح ليست فقط في مضمونه ومدى مطابقته للواقع، بل فيمن صرّح به. القائل هنا لا يقلّ أهمية عن المقال، والخطيب أكثر حساسية من الخطاب. فلو افترضنا فعلا أن المغرب دولة علمانية مثلما ادّعى الوزير، فمن غير اللائق أبدا أن يصدر هذا الكلام حتى لو كان حقيقة راسخة من وزير مسؤوليته الأساسية هي إدارة الشأن الديني، والعمل على تحصين الأمن الروحي للمغاربة. الرجل المؤتمن على هذا الرصيد الديني المتوارث منذ قرون طويلة، والذي حافظ عليه المغاربة بأرواحهم ودمائهم وأموالهم على مدار قرون، يتحدث بكل برود ويصدم الضمير الإيماني للمغاربة بالحديث عن علمانية الدولة.
الخطأ الثاني الذي ارتكبه أحمد التوفيق باعتباره رجل دولة هو أنه كشف على الملأ مضمون محادثة جرت بينه وبين وزير أجنبي في سياق خاص جدا. لنفترض مرة أخرى أن المقولة التي تحدث بها حقيقة راسخة، وأنه قالها فعلا، فهل كان من الضروري أن يدلي بذلك أمام البرلمان ويكشف مضمون ما يروج في اللقاءات الدبلوماسية المغلقة؟ من المفروض أن يتمتع وزير في مثل مكانة أحمد التوفيق، وحساسية منصبه بحسّ عالٍ من واجب التحفظ، الذي يُلزم رجال الدولة بمراعاة قاعدة “ما يُقال وما لا يُقال”. والحقيقة أن الرجل على الرغم من رصانته وحكمته الأصيلة إلا أنه خرق هذه القاعدة بسذاجة غير متوقعة وصادمة لمعظم من استمعوا إليه، بمن فيهم أولئك المدافعين عن القيم العلمانية والمدنية، والفصل بين السياسة والدولة.
الخطأ الثالث هو أن هذا التصريح ينطوي على حماس زائد ومفرط. ما المقصود بذلك؟ من المفترض أن يكون لوزير بهذه التجربة الطويلة قدرة هائلة على التفكير العميق قبل الرد أو التفاعل مع كلام الآخرين. لقد تعرّض أحمد التوفيق على ما يبدو للاستفزاز بسبب عبارة الوزير الفرنسي الذي قال له: “العلمانية تصدمكم”، فتفاعل على ما يبدو أيضا بطريقة انفعالية متسرعة وقال له: “لا، لإننا بلد علماني”. وهنا يحقّ لنا أن نسأل وزير الأوقاف المسؤول عن الشأن الديني للمغاربة: أليست العلمانية قيمة صادمة فعلا للمجتمعات التي يسودها الإيمان على غرار المجتمع المغربي؟ ليس هناك أيّ عيب في اعتبار العلمانية صدمة، لأنها لا تزال كذلك من منظور الثقافة السائدة في هذا المجتمع. ولعلّ وزير الأوقاف نسي في هذه اللحظة أنه يمثّل أساسا الدولة المغربية والمجتمع المغربي، وليس ناطقا باسم التوجهات الفرنسية الباحثة على ما يبدو عن نوع من الاطمئنان أو الارتياح.
إذا كان لفرنسا سياقها التاريخي والثقافي الخاص الذي دفعها إلى تبنّي اللّائكية كمنظومة سياسية لتدبير العلاقة بين الدولة والدين، فإن للمغرب أيضا سياقه التاريخي والثقافي الخاص، الذي مكّنه من بلورة نظام سياسي يجمع بين إمارة المؤمنين ورئاسة الدولة، وبين المرجعية الدينية والمرجعية المدنية، وبين القران وصحيح البخاري وبين الدستور. وأوصله هذا النظام بعد قرون من التفاعل إلى بناء مثلثه الديني الخاص الذي يقوم على 3 مقدسات: العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف السني، دون أن تتملكّه عقدة ذنب أو يقصي أيّ طرف أو يدخل في تطاحن طائفي أو صراع مذهبي لا ينتهي. وهذا ما نصطلح عليه باستمرار بمفهوم “الاستثناء المغربي”. وهو استثناء لا يعني أبدا التبرؤ من الرافد الديني باعتباره مقوما أساسيا من مقومات تمغربيت الأصيلة.