أخبار الدارسلايدر

الإنسانية أولا ، أو حينما يتجاوز الحق القانون .

الإنسانية أولا ، أو حينما يتجاوز الحق القانون .

في ضواحي العاصمة الرباط ، وفي نقطة للمراقبة بعين عودة ، كان هناك دركي وزملاءه المنتمين لكوكبة الرجات النارية، وفي لحظة فارقة ، تداخلت الأقدار لتسطر قصة إستثنائية تحاكي أسمى قيم العطاء ومعاني الشجاعة والإنسانية .
كانت الساعة تشير إلى لحظة حاسمة، عندما أوقف الدركي سيارة تسير بسرعة مفرطة، ليكتشف أن خلف عجلة القيادة رجل يحمل بين جنباته قلقا عميقا ، إذ قال له: “زوجتي في حالة ولادة طارئة” ، وكأنما جاءت الكلمات كصرخة في بحر من الفوضى، تجسدت فيها آلام الأمل ورغبة الحياة.
توقف الزمن لحظة، وتبدلت ملامح الموقف من مواجهة تفرض إعمال ونفاذ القانون ، إلى تجربة إنسانية بامتياز ، أظهر الدركي حكمة نادرة، فبدلا من فرض العقوبة وتسجيل المخالفة بعد التأكد من أوراق السيارة و صلاحيتها وما يتطلب ذلك من وقت طويل مع تنقيط السائق ، قرر الدركي الشاب أن يكون عونا للسائق، مخاطبا قلبه قبل عقله. “سأقود أمامك، اتبعني”، قالها بثقة، وكأنما أراد أن يضيء له درب الخلاص .

في تلك اللحظة، تلاشت الحدود بين الواجب والرحمة، وانطلقت السيارة، تتبع أضواء الطوارئ وصفارة الدركي ، وكأنهما ينسجان معا نسيجا من الأمل في طريق الحياة. كانت السرعة تتصاعد، لكن القلب كان في سكون، متعلقا بحلم الوصول إلى المستشفى حيث تنتظر الحياة أن تتجدد.
وبعد رحلة مليئة بالتوتر والأمل، وصلوا إلى وجهتهم. نزل السائق وعيونه تلمع بالشكر، ليس فقط للدركي، بل لكل إنسان يحمل في قلبه نبض الإنسانية. رد الدركي بابتسامة، “الله يسهل أمورك وتتم الولادة بخير وعلى خير”، كلمات كانت بمثابة تعويذة تبعد الخوف وتعزز الأمل.
في تلك اللحظة، تجسدت الصورة الحقيقية للإنسانية، حيث يُصبح القانون أداة لخدمة الحياة، وتصبح الرحمة رفيقة القوانين. كانت تلك الواقعة درسا للجميع، بأن القلوب الطيبة قادرة على تجاوز كل العقبات، وأن في كل موقف صعب، يمكن أن نجد بطلا يختار أن يكون إنسانا قبل كل شيء.

قد يظن البعض ياسادة ، أن العدالة تكمن في إعمال القانون بحذافيره، ولكن الحقيقة أن العدالة ليست فقط في نصوص القانون ، بل في الأبعاد الإنسانية التي قد لا تراهما التشريعات الجافة . فبينما يهدف القانون إلى فرض النظام ، تبقى الإنسانية هي الروح التي تمنح الحياة طعماً ومعنى .
قد تملي القوانين أحيانا قرارات قاسية ، لا تراع الظروف الخاصة لكل حالة ، إذ أن الكثير من الحالات الإنسانية تتجاوز حدود النصوص القانونية و لا يمكن حصرها في إطار جاف من القواعد . فهناك أوقات تتطلب فيها العدالة أكثر من مجرد تطبيق القوانين ، أوقات تحتاج إلى الفهم ، والإحساس، والإصغاء إلى نبض الأرواح .

الإنسانية في جوهرها ليست معاكسة للقانون ، بل هي المكمل الضروري له ، هي التي تضفي الحياة على القوانين وتحميها من أن تصبح أداة للظلم . فأي قانون بلا إنسانية يمكن أن يحول المجتمع إلى مكان من الجفاف العاطفي ، حيث تصبح الروح غائبة في طغيان الإجراءات الصارمة . بينما نجد أن القوانين التي تقترن بالرحمة والنزاهة تخلق بيئة من العدل الحقيقي ، حيث يعطى كل إنسان حقه دون التفريط أو الإجحاف ولهذا أوجد المشرع ظروف التخفيف .
نعم ، نحن بحاجة للقانون ليكون ضابطا للنظام والمساواة ، ولكننا بحاجة أيضا إلى الإنسانية لتعطي العدالة طابعها الأخلاقي الذي يعلي من قيمة الفرد ويحترم إنسانيته. فالعدالة الحقيقية لا تقاس فقط بحجم النصوص القانونية ، بل بقدرة القاضي والمشرع على الشعور بآلام الناس وآمالهم ، واستشعار همومهم التي قد لا تعكسها سوى العاطفة والحكمة الإنسانية .

ختاما أعزائي ، حين يتجاوز الحق القانون ، وتنسحب منه الشدة القانونية لصالح الرفق والتفهم لظرف ووقائع إرتكاب أي فعل مخالف له ، نكون قد بلغنا العدالة التي لا تقتصر على القوانين وحسب ، بل تكون في رحم الإنسانية، حيث نمنح الأفراد فرصة للثقة بعدالة القواعد القانونية وإنسانية من أسند له السهر على نفادها وإحترامها .

الحسين بكار السباعي

زر الذهاب إلى الأعلى