مدن تبوح بأسرارها.. استطلاعات يكتبها طلحة جبريل (الحلقة الثانية): مشروع “الأنوار“ يجدد الرباط
طلحة جبريل
يتغير شارع محمد الخامس في الرباط .لم يعد "الشارع" كما يلخص الرباطيون الإسم ، ذلك الشارع الذي يمكن حفظ ليس أمكنته فقط بل جميع وجوهه .الآن اندثرت أمكنة وشيدت أخرى ، أما الوجوه المألوفة التي كانت من سمات الشارع فقد اختفت .
ربما طواهم الزمن.
يتساءل المارة في شارع محمد الخامس عن الشكل الذي سيكون عليه ، ترى ماذا سيحدث لواجهاته.الفضول عارم ، لكن الجواب غير متوفر..كثيرون يتجمعون هذه الأيام في وسط الشارع قبالة مبنى البرلمان حيث النوافير والأطفال والمهرجين والمصورين الذين يقتاتون مع الحمام..الخضرة و الوجوه الحسنة.
في الجزء الأعلى من الشارع تجددت سينما "كوليزي"، تعرض هذه الأيام واحداً من الأفلام الأميركية التي أنتجت حديثاً وهو شريط "ليون كينغ". قرب السينما يوجد ثلاثة من فناني الشارع الذي يعزفون على قيثارة ، لقاء بضعة دراهم يجود بها المتجولون في الشارع .
بالمقابل هناك معلمة لها تاريخ وقصص وحكايات وهي مقهى باليما ، ما تزال مغلقة ولا أحد يدري ماذا جرى ويجري لهذا المقهى الذي كانت من أبرز معالم الرباط وليس فقط شارع محمد الخامس . كان يجلس في هذا المقهى معظم ساسة المغرب ، إلى حد أن المعطي بوعبيد و هو وزير أول إعتاد أن يرتاد المقهى باستمرار .
كان يلتقي في باليما سياسيون وبرلمانيون و مسرحيون وفنانون و تشكيليون، و كتاب و صحافيون وشعراء ومتقاعدون وموظفون .. وآخرون وأخريات.كانت "باليما" مقهى مفتوحاً وهي الأكبر مساحة في الرباط . عند مدخلها ما يزال يرص بائع ركاماً من الصحف والمجلات والكتب.
إحتشد كثيرون في الساحة التي كانت أمام وزارة الإعلام قبل أن تصبح وزارة “للإتصال “.
خليط من البشر، هناك من يبيع بعض الكتب القديمة وهناك من يؤجر نظارات ثلاثية الأبعاد ، وهناك من يتسول بأشرطة متنوعة ، وهناك من يبيع حلويات أو بعض الألعاب للأطفال. من الحديقة الصغيرة أمام مبنى وزارة الإتصال الذي أصبح تابعاً لبنك المغرب.
وكلما اتجهت نحو "السويقة " ستلاحظ أن الناس تندلق بأعداد كبيرة نحو الرباط العتيقة. في آخر جزء من شارع محمد الخامس غطيت واجهات المباني بأغطية بلاستيكية ، وكتبت لافتة تقول " تجديد واجهات شارع محمد الخامس" . ولافتة أخرى تقول " الرباط مدينة الأنوار ..عاصمة المغرب الثقافية “.عندما تتجه نحو "السويقة" ستكتشف أزقة يتدفق منها البشر كما السيل. هنا كل شئ يختلط بأي شئ .
بعد قرون يكتشف اهل الرباط، ان مدينتهم القديمة أصبحت حياً من أحياء الرباط الحديثة، بعد أن شيدت الأحياء الجديدة خارج الأسوار القديمة، وتمددت الرباط شرقا وغربا جنوبا وشمالا وأضحت تلك الأسوار تؤشر فقط الى ان المدينة كانت هناك خلف الأبواب والأسوار.كيف حدث هذا.لاشيء سوى ان التطور العمراني والزيادة الديمغرافية اقتضت ذلك. اقتضت ان تكون الرباط القديمة حياً من احياء الرباط الحديثة، بأزقتها التي تتلوى وتتعرج طبقا لمقاييس عمرانية اندثرت.
تقول المراجع إن أحد ملوك الدولة الموحدية ، وهو السلطان يعقوب المنصور أسس المدينة في عام 1197 ويقول عبد الله السويسي مؤلف كتاب "تاريخ رباط الفتح"حول هذا الموضوع ان المولى إدريس أسس مدينة فاس حاضرة المغرب الاولى، وتلاه يوسف بن تاشفين بتأسيس مراكش، وكان الموحدون بدورهم يبحثون المكان الصالح لتأسيس مدينة يتخذونها قاعدة ومنطلقا لجيوشهم إلى الأندلس شمالا والى افريقيا جنوب. اختاروا بقعة الرباط لكونها واسطة العقد. و لاهمية موقعها الجغرافي بين مراكش وفاس والاندلس أسسوا مدينة “رباط الفتح”.
المفارقة أن "يعقوب المنصور" هو اليوم حي شعبي يقع بعيدا عن أسوار المدينة القديمة، وكأننا بمؤسس المدينة قد أراد أن يخلد اسمه في ذاكرة شعبية تاركا اسوار وأبواب الرباط تحكي تاريخها لمن يشاء.
شيدت الرباط القديمة على غرار مدن شمال أفريقيا القديمة، اذ كانت تحيط بها الاسوار والحصون، يوم كانت الغزوات على هذه المدن لا تهدأ، والمرجح ان لفظة رباط نفسها اشتقت من "ربط او رباطات" وهي لفظة تدل على ان خلف الأسوار تقبع مدينة كاملة بأنشطتها الاقتصادية والاجتماعية والدينية. كانت مهمة الأسوار على ما يبدو دفاعية. لذلك شيدت بكيفية تسمح للجنود بإمكانية تسلقها مع وجود مراكز مراقبة لرصد القادمين من وراء البحار. ويبلغ طول أسوار الرباط 5300 متر، وعرض السور من مترين الى ثلاثة، كان الدخول الى المدينة يتم عبر أبواب ما زالت أطلالها ماثلة إلى اليوم، لعل أشهرها باب الأحد وباب الرواح و باب البويبة وباب لعلو وباب زعير، كما أن الأسوار ماتزال تخضع لعمليات ترميم متواصلة ، حتى لا يتآكل التاريخ، حالياً غطت بعض أجزاء هذه الأسوار بغطاء بلاستيكي ضخم ، والغرض مزيد من التجديد.
تقبع خارج الرباط القديمة، وتعتبر جزءا منها هضبة شالا التاريخية وقصبة الوداية وهو حصن بناه الرومان . تحولت الاولى الى اطلال للسياحة، والثانية الى منتزه في أيام العطلات.
حين بدأت تغرب شمس دولة العرب عن الاندلس، هاجرت عائلات اندلسية بكاملها جنوبا. واستقر جزء كبير منهم في الرباط، حتى ان بعض الاسماء العائلية في رباط اليوم ما زالت تحمل أسماء هي اقرب الى الاسبانية منها الى العربية، مثلا : رودياس، بلامينو، فلوريش، فنجيرو، كراكشو ومورينو .
لم يكتف هؤلاء القادمون بنقل اسمائهم بل حملوا معهم كثيرا من العادات والتقاليد، والفنون الأندلسية خاصة المعمارية منها، الى الرباط و تصاهروا مع اهلها، وافرز ذلك نمطا خاصا، للحياة في رباط الفتح، التي تحولت رسمياً الى عاصمة للمغرب في مطلع القرن الحالي في عهد السلطان مولاي يوسف.عندما تدخل الرباط القديمة، التي تحمل اليوم اسم "المدينة" أو "السويقة" ستلاحظ ان التاريخ القديم يمشي مترافقاً مع التاريخ الحديث فوق أزقات المدينة المبللة.
فما يزال بائعو الماء من القرب، والذين يمارسون مهمة التداوي بالأعشاب وغزل الصوف يدوياً، و الحوانيت التي تبيع الأحجار الجيرية، متجاورة مع تلك التي تبيع الاجهزة الالكترونية الحديثة.
ليس مدهشاً ان تلتقط الاذن أنغاما موسيقية من التراث الأندلسي أو أغاني الراب أو مجموعات الغيوان وجيل جلالة ، و تسمع أيضاً عبدالحليم حافظ ووردة الجزائرية.
تختلط أصوات الباعة المتجولين في تناغم مثير مع إيقاعات طرب "الملحون"، الذي كان في يوم من الأيام يتغنى بها "المعلمون" (الحرفيون).
ثمة مكتبات على الرغم من الكساد الذي تعرفه سوق الكتب ، بل قل القراءة. كما أن هناك يفترشون الأرض يعرضون بضاعتهم فوق قطع البلاستيك، وينادون على كتب على غرار "الروض العاطر في نزهة الخاطر" و "عودة الشيخ إلى صباه".
يسيل عصير البرتقال ندياً من أحشاء آلات العصر الحديثة، الى جانب السقايات التي يسيل منها الماء. تبيع المطاعم الشعبية "الحريرة" ، وأسماك وشرائح لحم تقلى حسب الطلب، وفطائر وحلويات. بائعات البغرير إلى جانب باعة الساندوتشات المحشوة بالعجب العجاب.
كل شيء يوجد هنا باستثناء الهدوء .. هنا الزعيق الصياح وبعض الأحيان مشاجرات وخصومات بدون سبب. يتمشى في الأزقة الراجلون او الذين يمتطون دراجات نارية أو هوائية ، بحيث يتعرجون وسط الزحام كما تتلوى أزقة السويقة.
الآن تتغير " السويقة" إلى حد أن عمليات التغيير أدت إلى تشديد سقف خشبي يغطى زقاقها الرئيسي. ما تزال " المدينة" تحافظ على اسماء أزقتها وأحيائها، وأهمها :القناصل، حي الجزاء، ساحة سوق الغزل ، سيدي فاتح، و بوقرون، ولعلو. والملاح الجديد. وفي بعض الأحيان يكون أسم بعض الأزقة غريباً على غرار " أم الكنابش".ما زال هناك بضعة يهود في "ملاح" الرباط . لكنه تحول الى سوق يباع فيه الأثاث المنزلي والأفرشة والسلع المستعملة.
هكذا تعيش الرباط القديمة، غير عابئة بالامتدادات الذي حدثت خلف أسوارها التاريخية، تحتضن أسرارها في صمت مدهش، على الرغم من عمليات التجديد التي جاء بها مشروع” رباط الأنوار".