فن وثقافة

لمحات من تاريخ الأندلس.. الحلقة الثانية

الدار/ إعداد وترجمة حديفة الحجام

قصة الفتح الإسلامي للأندلس

يبدأ تاريخ إسبانيا الإسلامية سنة 711/92، حينما قام طارق ابن زياد (720)، أواخر شهر أبريل، على رأس جيش مكون من سبعة آلاف مقاتل أغلبهم من البربر، كما كان هو أيضا منهم (كان عدد العرب أقل من 300 رجل)، بعبور المضيق الذي سيحمل اسمه انطلاقا من ذلك التاريخ، بهدف الإبحار إلىي شبه الجزيرة الإيبيرية. وعبر الفيلق البربري المسلم على متن أسطول الكونت جواليان، الحاكم البيزنطي السابق لمدينة سبتة (Septum)، بعدما وضعه تحت تصرف حاكم إقليم إفريقية، موسى بن نصير (670-714)، الذي كان مقره في القيروان.

وهناك شيء يستحق أن يحكى. فمن جهة كان الكونت دون خوليان نصرانيا توحيديا، أي موحدا خالصا، يتبع تعاليم النصارى الأوائل ومن كان يطلق عليهم الآباء وعلماء الكنيسة، من أمثال أورجانوس (185-254)، وكليمندس الاسكندري (215)، وترتليان (155-220)، وجاستن الشهيد (100-165)، وبالخصوص القس الإغريقي آريوس (256-336)، من مواليد ليبيا، وكانوا من الورعين المدافعين عن فكرة الوحدانية الرافضة لتأليه عيسى. والجدير بالذكر أن فكرة التثليث أضيفت بشكل حديث نوعا ما إلى الكنيسة الكاثوليكية انطلاقا من مجمع نيقية الأول سنة 325، مما نتج عنه خلق فتنة كبيرة بين نصارى المشرق من أتباع المذهب التوحيدي وقساوسة الغرب تحت قيادة أوسيو (257-358) الذي استغل ما يطلق عليه "اتفاق قسطنطين" للاستحواذ، منذ ذلك التاريخ، على توجّه الكنيسة وسلطتها. ويشرح المؤرخ الإسباني إيغناثيو أولاغوي في كتابه "الثورة الإسلامية في الغرب" (1974)، أنه انطلاقا من ذلك الوقت "… فُرضت عقيدة التثليث تحت سلطة الحديد والنار" على مجموع شمال إفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية. وهو ما يفسر أيضا السهولة النسبية التي تقدم بها المسلمون في تلك المناطق والحفاوة التي استُقبِلوا بها، سيما من طرف البربر. وبعد توطيد دعائم السيطرة في إفريقيا (تونس) حوالي سنة 670، بلغوا سنة 701 الجزء الغربي من منطقة المغارب ثم وصلوا إلى طنجة حوالي 708.

ودخل موسى بن نصير في حلف مع الكونت دون خوليان الآري، سيد طنجة وسبتة، أرسل بموجبه الملازم في جيشه، طريف، على رأس 500 رجل لاحتلال الجزء الخارج من شبه الجزيرة والذي سيحمل اسم مدينة طريفة وفرض عليه جزية كبيرة أو "تعريفة" بغرض معاقبة تجاوزات الحكام القوط ضد النصارى الآريين في المنطقة. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن أغلبية سكان شبه الجزيرة الإيبيرية كانت تدين بالمبادئ التوحيدية والآريوسية. وفي المقابل من ذلك، كان البلاط ورجال الدين القوط يستجيبون لأوامر روما ولمعتقد التثليث. وكانت الأقلية القوطية المستقرة طليطلة تمارس في نفس الوقت أشد أنواع القمع على رعاياها الآريسيين. ويورد الأستاذ ألاغوي في الكتاب المشار إليه آنفا تفاصيل دقيقة عن هذا الموضوع، وهو بالمناسبة كتاب يوصى بقراءته.

وبالعودة إلى موضوعنا السابق الخاص بعبور طارق، حط هذا الأخير رفقة رجاله بالقرب من الصخرة المعروفة والتي حملت اسمه: "جبل طارق". وفي التاسع عشر من يونيو من نفس السنة، وعلى ضفاف وادي لكة، تمكن من تحقيق نصر ساحق على الملك القوطي دون رودريق. وبعد مرور شهر استطاع القائد مغيث الرومي الوصول إلى مشارف مدينة قرطبة. يقول العلامة اليهودي المغربي والأستاذ الفخري بجامعة باريس، حاييم الزفراني: "خلال الحصار أغلق اليهود على أنفسهم في منازلهم منتظرين النهاية على أحر من الجمر. وخلافا لما كانوا يشعرون به تجاه القوط ورجال الدين، لم ينتبهم أي خوف إطلاقا من وصول المسلمين، لأنهم كانوا يعلقون عليه كل آمالهم، فهم لم ينسوا كيف كان يضطهدهم الملوك القوط الغربيون دون رحمة. وساهم اليهود بحيل قاموا بها –حسب ما يروي المؤرخون المسلمون والنصارى– لتسهيل دخول الجيش المسلم إلى المدينة واحتفلوا بنصرهم. كما استفاد مغيث من خدماتهم وكلفهم بحماية المدينة. نفس الشيء حصل في طليطلة وإشبيلية حيث ترك موسى بن نصير كتيبة يهودية لحفظ النظام" (ح. الزفراني: اليهود في الغرب الإسلامي. الأندلس والمغرب، 1994).

ودخلت إسبانيا منذ ذلك التاريخ إلى دار الإسلام واندمج النصارى الآريسيون واليهود بشكل منسجم في الدولة الإسلامية التي كانت تُشيد شيئا فشيئا. وبمجرد انتماء اليهود الإسبان إلى تلك المناطق التي كانت تمتد من المحيط الأطلسي إلى الصين أصبح بإمكانهم الالتقاء بإخوانهم من باقي الجماعات اليهودية في الشرق وفي شمال إفريقيا واستأنفوا معهم الروابط الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ومن جهة أخرى، قوى النصارى الموحدون الإسبان هويتهم التوحيدية وكرسوها على غرار إخوانهم في العقيدة وكذا المسلمين واليهود.

ربما يبدو هذا التوقف عند أصول إسبانيا المسلمة فيه نوع من الإطالة بعض الشيء، إلا أننا نعتقد أنه مهم لمعارضة التاريخ الرسمي الذي يؤكد في غياب أي مصادر أو حجج جدية أن إسبانيا فتحها المسلمون بالدم والنار. وكما سبق ورأينا، فإن السكان الأصليين المشكّلين في غالبيتهم من النصارى الآريسيين وكذا الأغلبية اليهودية استقبلوا المسلمين على أنهم محررين وقبلوا بعقيدتهم وعاداتهم وتقاليدهم، والتي كانت عمليا تشبه تلك الخاصة بهم. وكان الشعب الإيبيري الروماني، إذ لا يمكن الحديث عن شعب إسباني في تلك الفترة، شريكا أكثر منه متعرضا للغزو. أضف إلى ذلك أن البربر والعرب اندمجوا بشكل كامل في ظرف أقل من جيل مع السكان المحليين من خلال الزيجات المختلطة الكثيرة لأن الغالبة أتت إسبانيا من دون نساء.

وخلافا لما هو شائع، استطاع المسلمون إحلال السلم في شبه الجزيرة الإيبيرية في أقل من سنتين وأسسوا دولة إسلامية ضمت النصارى واليهود ودامت لحوالي ثمانية قرون، إلى غاية 1492. والجذير بالذكر أن الفينيقيين والقرطاجيين قد سبق وحاولوا عبثا لأربعة قرون إخضاع "البيتيكيين" و"الإيبيريين الكلتيين"؛ وكذا الرومان لحوالي ستة قرون فتسببوا في مجازر فظيعة، على غرار ما حصل في مدينة "نومانثيا" البطلة التي قاومت حصارا فرض عليها عشرين سنة قبل أن تدمرها قوات "إيسيبيون إميليانو" (185-129 قبل الميلاد). أما المسلمون فلم يمدروا شيئا بل أعادوا إعمار البنايات القديمة التي تركها الرومان مثل القناطر والقنوات المائية، وشيدوا "ثقافة الماء" وبنوا مآثر رائعة ما زالت قائمة إلى أيام الناس هذه.

وبالإمكان القول اليوم إن ثمانين في المائة من الخمسين مليون سائح ممن يزورون إسبانيا سنويا يأتون بشكل أساسي لزيارة "الخيرالدا" –برج كان فيما مضى منارة الجامع الكبير في إشبيلية–، ومسجد قرطبة، وقصر الحمراء في غرناطة وعجائب أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى